عائشة السريحية
في كل صباح، تبث الحياة في ركام الجسد المُتراكم على السرير طاقتها، وتبدأ يدا سعيد في تركيب أجزاء وجهه، أذنيه وأنفه وعينيه، وهكذا حتى تصل لقدميه، لكنه اليوم أضاع ظهره، بحث عنه كثيرًا، تحت السرير، خلف الأريكة، حتى في حوش منزله المهترئ، وعلى سطحه المتهالك، وبعد أن فقد الأمل في إيجاده، قرر أن يخرج لمُمارسة حياته الطبيعية ولو أنه بلا ظهر.
وقف على الناصية ينتظر الحافلة، تدافع الناس للركوب ووجد نفسه آخر شخص يصعد، إن وزنه صار خفيفاً جدا، لذلك كان غير مرئي للآخرين، أو هكذا ظنَّ.
ترجل من الحافلة، وذهب ليقطع تذكرة سفر، فموعده لمقابلة العمل باتت وشيكة، ابتسم وتوجه نحو الموظف، طالعه الآخر بنظرة تعجب وقال:
"لم نعد نر أناساً لا ظهر لهم".
أجاب سعيد بوجه يحمل علامات الخجل وقال: " لقد ضاع مني رغماً عني"
هزَّ الموظف رأسه وعلق:
"يالك من مجنون، عموماً،كيف أساعدك؟"
دسَّ يده في جيب بنطاله مخرجاً هويته، ومدها بلطف نحو الموظف وقال مبتسما:
-"أحتاج تذكرة سفر"
عينا الموظف متسمرتان، على الفجوة التي في ظهره، بدا وكأنه يفكر في رد مقنع، فقال أخيرا بعد أن اجتث القلق سعيد من مراسي اطمئنانه، ممتعضا ومتململا:
- "عذرا، لا تذاكر متوفرة اليوم سأضعك، على قائمة الانتظار"
دون شعور مرر سعيد يده على خواء ظهره، متنشقا الشعور بالخزي، فارتكن لكرسي اضطجع على أرض ثابتة، وماسواها يدور، وظل يفكر في حل، لعله يجده متواريا بين دهاليز أفكاره المتشتتة، فاسترقه من تفكيره صوت الموظف ذاته، يحجز لشخص وقف أمامه على ذات الرحلة وكأن مصباح علاء الدين أخرج ماردا وحقق أمنية وصنع مقعدا على الطائرة من العدم، أو هكذا كان يتوقع:
"بكل سرور سيدي، هناك مقعدان، ويعدان آخر مقعدين في الطائرة اليوم".
تعجب سعيد وانتظر انتهاء المُعاملة، وعاد للموظف، يسأله عن المُعجزة التي حدثت، ووجهه بدا وكأنه علامة استفهام، تحتضن علامة تعجب، فأجابه عن استفساره قائلا:
"ألم تر حجم ظهره؟".
أرقه كثيراً أن يكون بلا ظهر، لكن ما باليد حيلة، فهو لا يعرف كيف اختفى.
شارفت الساعة على الخامسة عصرًا، لم يكن بإمكانه السفر، ولم تعد لديه رغبة في التحليق، أراد أن يعبر الطريق فقط ليعود لمخدعه، شارد الذهن، عيناه لا تغادران مواقع خطواته الثكلى، فكادت سيارة فارهة منطلقة أن تدهسه، غير أن القدر حفظه من الموت، إلا أنه لم يمنع وقوعه أرضا ملوي الكاحل، ومجروح القدم، لم يبالِ به مالك السيارة، فبمجرد أن تراءى له خواء ظهره، قام بسبه وإهانته فكيف لغبي مثله بلا ظهر أن يعترض سير رجل له ظهر يكاد يخلق حيزا عظيما بين مقود السيارة وظهر الكرسي لو حشر فيه سعيد جسده لكفاه؟.
جر كاحله الملتوي، وحمله معه، وظل يعكز إلى أن وصل لشقته الصغيرة، ليطبب جراحه.
عكف على إصلاح كاحله ساعة من الزمن، ثم أشرقت في دياجير يأسه، فكرة البحث عن ظهر للإعارة، بدأ في كتابة إعلان سيقوم بنشره في الجريدة، قال في نفسه مع بصيص أمل:
"ولم لا؟ فهناك الكثير ممن لديهم ظهور احتياطية، لعل أحدهم يعيرني واحدا"
وبالفعل صمم الإعلان، وذهب للنوم مُغتبطا، حلم بأنه امتلك ظهرا وبه أجنحة، وكان يطير منتشيا، والجميع يلوحون له من الأسفل، وفي صبيحة اليوم التالي توجه فورا للجريدة والأمل يغلف أوردته، نبضاته تتسارع فالمجتمع سيتقبل وجوده أخيرا، وحين قابل الصحفي، وأخبره برغبته، طرده بلا هوادة،خرج سعيد بإحباط وحزن غمر الدنيا بضباب داكن اللون، لم يحتاج الجميع للظهر؟ طالما وهم يستطيعون المشي وممارسة حياتهم الطبيعية، اكفهرت الطرقات، وتقهقرت الأمنيات، وترسب اليأس في قعر الأمل فأثقله وأوقعه صريعا، باتت أعين الناس كموازين معيارية، ولم يعد اليوم في نظره كالأمس، حدق كثيرا بأصحاب الظهور، اكتشف أن ظهورهم متنوعة، ومختلفة، لم يكن ذلك التمعن واردا في قواميسه قبل اليوم، رأى أحدهم يبدو كأحدب نوتردام، بينما آخر مقوس ظهره لشدة ما أثقله حمله، بل إن شخصاً كان يحمل ظهرا وله فم كبير، يد صاحبه تطعمه كلما تحرك.
كانت عيناه مسبار كشف عن أنواع الظهور التي تنتشر في مدينته، لم يكن بإمكانه المرور في الأماكن الرئيسية، ولم يستطع الحديث أو الاعتراض على أحد، ولكنه وبعد أشهر من الاختباء كجرذ لا يخرج ألا في فضاء الطرقات الخاوية، ولا يحصل إلا على المرتبة الأخيرة دائماً، قرر أن يكون له ظهر، فقام بشراء ظهر صديق له، فصديقه يملك ظهرين، ولكن سعيد دفع رأسه كسعر مُناسب لشراء ذلك الظهر، ومنذ ذلك اليوم، لم يلحظ أحد أبداً أن سعيداً كان يمشي بلا رأس.