عُمان.. رسوخ في الدبلوماسية

 

 

د. إسماعيل الأغبري

 

تعاقبت الأعوام والدهر يقلب صفحاته بيضاء ناصعة حتى بلغت المناسبة الوطنية إحدى وخمسين عامًا من العيد الوطني، والذي نرغب في تسليط الضوء عليه في هذه العجالة هو دبلوماسية عمان؛ سماتها ومميزاتها ونتائجها وطيبات حصادها، فقد عز شبيهها في العالم العربي وشح مثيلها في مرتكزاتها ومنطلقاتها.

لقد امتازت الدبلوماسية العمانية من بين أقرانها بسمات يمكن سرد بعض منها:

  1. عدم التدخل السلبي في شؤون الدول كافة؛ وهو مبدأ أممي تواطأت عليه أمم الأرض وكل من ينال الاعتراف من المنظمات الدولية.

وهذا المبدأ لو سار عليه الجميع كما تسير عليه الدبلوماسية العُمانية لتمكن العالم بأسره من العيش جميعاً وإن اختلفت دوله فإنَّ فقاعات الخلاف سرعان ما تنقشع لفقدانها من يذكي ناره أو لوجود من يسعى لإطفاء لهيبه وكلا الأمرين تعض سلطنة عمان عليهما بالنواجذ وقد تعاقب على الأمم المتحدة أمناء عامون وخاصة المتأخرون منهم فشهدوا بسلامة الدبلوماسية العمانية وأياديها البيضاء في عدم التدخل في شؤون الدول وهذا المنهج ليس وليد زعامة بقدر ما هو خط سير يترسمه عاهل عن عاهل عن عاهل أي سياسة متبعة ومنهج ملازم لكل من يتولى أمر سلطنة عمان.

  1. العمل على صداقة العالم أي أن منهج الدبلوماسية العمانية هو تكريس الصداقات مع دول العالم وتجنب الدخول في خصومات بينية أو عبر محاور تصعيدية.

المشاكسات تعني استفراغ الجهود وقتل الهمم فيها بدل صرفها في التعاون وتعميق وسائل التواصل الأممي ولو صرف العالم همه في ترسيخ علاقاته البينية القريبة والبعيدة لنعمت هذه الدول بعلاقات حسنة تخدم المصالح المتبادلة وتجنب العالم الصراعات ومآسي الحروب والفتن وتعطل عجلة التنمية البينية.

  1. الثبات وعدم التقلبات وهذه سمة باتت معلومة لدى عامة المراقبين والمتابعين للشؤون السياسية فضلاً عن صيرورتها حقيقة ماثلة للعيان لدى طلاب دراسات العلوم السياسية.

حيث إن سلطنة عمان همزات وصلها ذات ديمومة واستمرارية تطبيقاً للمبدأ الأممي الأول وهو عدم التدخل في سياسات الدول الأخرى وبذلك تطمئن كل دولة تقيم علاقات مع عمان بأنه لن يصيبها عطب ولن يمسها توتر ولن تشهد تزلزلا للأقدام الدبلوماسية بعد ثبوتها فالعلاقات مع مصر على سبيل المثال كنهر النيل ثابت لا يجف فقد اتخذت مصر قرارا أثار الدول العربية عام ١٩٧٩م بتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد وتم نقل مقر الجامعة العربية من مصر وسحب السفراء من القاهرة وتم الاشتراط على مصر ضرورة إلغاء الاتفاقية وعدم جواز رفرفة علم إسرائيل في القاهرة وحرمة رفرفة علم مصر في تل أبيب إلا أن سلطنة عُمان لم تسحب سفيرها من مصر ولم تقطع علاقة معها وليس بالضرورة موافقة لها مئة بالمئة لكن الدبلوماسية العمانية واقعية فمصر لها ثقل كبير في عالم العرب سكانا وجغرافيا والعالم العربي هزيل نحيل ضعيف بدونها فكيف له قطعها؟ كما أن مصر هي التي عانت ويلات الحروب وتدمير مطاراتها وهدم مبانيها على رؤوس أهلها من قبل الطائرات الإسرائيلية والفرنسية والبريطانية خلال حروب متعاقبة.

إنها أدرى بأوجاعها ومصائبها كما إن الدبلوماسية العمانية منطقية وواقعية؛ إذ كيف للعالم العربي وفي عام 1979 أن يقطع علاقاته مع مصر، وآنذاك كل دعاته من الأزهر الشريف ووعاظه ومرشدوه من مصر؟ ومعلمو الدول العربية أكثرهم من مصر والمهندسون منها والأطباء منها فمن المقطوع ومن القاطع حينئذ؟!

لقد أثبتت الأيام بعد المنهج السياسي والدبلوماسي العماني فالدول والصحف التي شنت حملات إعلامية على السلطنة كانت وفي أوج القطيعة تطلب المُعلمين والمهندسين والأطباء والمزارعين والعاملين من مصر فأين قطع العلاقات والقدرة على الاستغناء عن مصر؟

ثم بعيد فترة أعاد العالم العربي علاقاته مع مصر ولم تلغ اتفاقية كامب ديفيد ولم تتراجع مصر؛ بل تراجعت الدول العربية، وبذلك عاد العالم العربي وصار إلى ما صارت واستمرت والتزمت به الدبلوماسية العمانية؟ وباركت السلطنة خطوات العالم العربي لأنَّ ذلك ينسجم مع منهجها وهو نحو جامعة عربية حقيقية جامعة ووحدة فعلية لا قولية.

ومنهج ثبات علاقاتها الدبلوماسية تجلى أيضاً مع سوريا ولبنان والعراق وإيران والسودان وتونس وغيرها من الدول فسلطنة عُمان من جهتها لم تتزلزل علاقاتها مع أي من هذه الدول حتى في أحلك ظروف هذه الدول ومنها سوريا فهي لم تسحب سفيرها من سوريا سحباً دبلوماسياً وإنما نقلته نقلاً أمنياً وشتان بين الأمرين ولم تسع إلى إخراج الحكومة السورية من مقعدها في الجامعة العربية لأن الدبلوماسية العمانية واقعية ومنطقية فمقعد ممثل الحكومة السورية في الأمم المتحدة لم يتغير أي أن العالم ومنبره الأممي يعترف بالدولة السورية؟ ثم إن أحداثها داخلية وسلطنة عُمان لا تنغمس في شأن الدول الداخلية إلا إن كان في سبيل التقريب بين الأطراف وإنهاء الأزمات وحل المشكلات بناء على طلب من الأطراف فهنا تكون الدبلوماسية العمانية أولا ووسطا وآخرا.

أثبتت السنوات أن المنهج السياسي العماني هو عين الصواب فهاهي دول الجامعة العربية تتلاحق لتصويب العلاقات مع سوريا وصارت الدول تفتتح سفاراتها في دمشق وتقيم علاقات اقتصادية معها وبعض يستعد لحضور وفد الحكومة السورية مؤتمر القمة العربية وهذا عين ما دعت إليه الدبلوماسية العمانية بل هو عودة إلى المنهج الدبلوماسي العماني واعتراف بوضوح سبيل الدبلوماسية العمانية عن طريق الفعل وإن لم يتم التعبير بذلك عن طريق القول.

  1. التسهيلات (الوساطات) في سبيل حلحلة المشكلات داخل بلد من البلدان أو بين البلدان المختلفة وهذا منهج متأصل في الدبلوماسية العمانية ومن لوازم من أراد خوض غمار ذلك أو طلب منه ذلك أن تكون علاقاته مع الجميع طيبة وعلاقات طبيعية وقد لزمت سلطنة عمان ذلك المنهج على مر عصورها.

التقريب بين الإخوة شأن دبلوماسيتها وحل المشكلات بين الأصدقاء سبيلها ومن دعائم هذه النتيجة ودلائلها تمكنها من قيام أمريكا بالإفراج عن الشخصية العلمية الإيرانية المحتجزة بواشنطن عام ٢٠١٣ م كما تمكنت دبلوماسية سلطنة عمان من إقناع أطراف باليمن من الإفراج عن شخصيات أمريكية وبريطانية وفرنسية تونسية  محتجزة باليمن ولا ننسى من تمكن دبلوماستها من إقناع إيران بالإفراج عن عدة شخصيات غربية وأمريكية.

ولولا توازن دبلوماسيتها وحسن علاقاتها مع جميع الأطراف لما تحقق ذلك ولولا علاقات طيبة طبيعية مع   هدأ ما تصاعدت أمواجه توترا وتشنجا.

5 تجنب التشنجات في العلاقات؛ وقد بات هذا المنهج العماني معروفا لدى الساسة والمراقبين وعند حلول أزمات بين الدول العربية وتسارعها في إصدار بيانات المجاملات بات متوقعا كيف سيكون بيان السلطنة من حيث خلوه من عبارات التشنج والانفعال والحفاظ على شعرة معاوية مع جميع الدول ومن الأمثلة على ذلك ما وقع بين دول عربية ودولة قطر عام ٢٠١٣م من حيث استدعاء السفراء من الدوحة إلا أن دبلوماسية السلطنة لم تر ضرورة بلوغ الأمر إلى هذا المستوى فبقي سفيرها وعلاقاتها الطبيعية مع قطر والدول العربية الأخرى ذلك أن دبلوماسيتها تدرك أنه حتما ستعود المياه لمجاريها كما تدرك أن التشنجات في السياسة لا تستقيم مع تشابك المصالح لذا بذلت جهودا مضنية في سبيل عودة المياه إلى مجاريها وفعلا عاد السفراء إلى دولة قطر وهذا يعني أن خيار السلطنة كان هو الناجح.

وكذلك ما وقع بين قطر وعدد من الدول العربية عام 2017 من توتر وملاسنات كلامية وشبه حرب إعلامية فإن دبلوماسية سلطنة عمان تجنبت سوء العلاقة مع الأطراف بل احتفظت مع الجميع بعلاقات طبيعية ثم ما لبث ذلك التشنج في العلاقات أن انقشع ولو ظاهرا وعاد الدبلوماسيون إلى دولة قطر وبدت وسائل الإعلام أكثر عقلانية عما سبقه من تراشق وتلاسن وهذا يعني صواب منهج السياسة والدبلوماسية العمانية.

لقد احتفظت سلطنة عمان بعلاقات طبيعية مع إيران أيام الشاه المحسوب على الرأسمالية والموسوم منهجه بالمنهج العلماني ثم تمت الإطاحة بالشاه ومجئ نظام ذي أيدلوجية مغايرة لما عليه أيدلوجية الشاه وهي أيدلوجية إسلامية فلم تضطرب دبلوماسية السلطنة مع هذه الأيدلوجية أيضا بخلاف عدد من الدول العربية التي تقلبت سياساتها من حين لآخر ولا شك أن هذا المنهج الذي سارت عليه دبلوماسية عمان نابع من تطبيقها المبدأ الأممي وهو عدم التدخل في شؤون الآخرين فكل دولة حرة في اختيار النظام الذي تريد أكان إسلاميا أو علمانيا أو ليبراليا أو بعثيا أو حتى شيوعيا فهي ليست وكيلة على أحد ولا وصية على الدول ولا مشرفة لتسيير أعمال دولة من الدول وقد أسفر هذا المنهج عن ثقة العالم الإسلامي والغربي بالمنهج العماني الخالي من التقلبات البعيد عن المزاجيات.

وختامًا.. إن السياسة العمانية تؤمن عملا بحقوق الجوار فالجار من الدول باق ولو جف النفط ونضب الغاز وتحولت المنطقة إلى ديار بلاقع بينما قوات ودول الغرب آتية لمصالح وهي راحلة عند عدم وجودها فحفظ العلاقات مع الجوار أولى من توتراتها واضطرابها.