حوكمة الأداء

 

د. خالد بن حمد الغيلاني

Khalid.algailni@gmail.com

@khaledalgailani

رغم حداثة اللفظ بالنسبة للغويين أهل الفصاحة والبيان، ورغم أصله غير العربي، كما ورد في العديد من الأدبيات التي تناولت مفهوم الحوكمة، وفصّلت فيه تفصيلاً دقيقًا، ورغم انتشاره الواسع بين مختلف العلوم والمجالات، ورغبة الجميع في الأخذ به مبررين ذلك بالتطوير والبناء للمستقبل، رغم ذلك كله ندرك جميعاً أن الحوكمة أصبحت أمرا بالغ الأهمية، وضرورة تقتضيها متطلبات التنمية، وتعتمد عليها مؤشرات البناء والتطوير للمستقبل.

وبنظرة سريعة فإن الحوكمة في أبسط مفاهيمها تعني إحكام كل شيء إحكاماً يتفق مع الخطط والبرامج، ويسير نحو تحقيق الأهداف سيرا متزنا ثابتاً، يؤدي في النهاية إلى مستوى عالٍ من الجودة والأداء، هذه الجودة التي يشترك في بلوغها جميع الأطراف، ويستفيد من نتائجها كذلك جميع الأطراف، ويتحمّل ذلك الإخفاق إن حصل جميع الأطراف، عندها يجب أن ينال الجزاء الجميع كذلك، بهذا المفهوم وحده من المُمكن أن نرى حوكمة حقيقية تكون واقعًا ملموسًا.

إن رؤية "عُمان 2040" والتي جعلت من حوكمة المؤسسات أحد أولوياتها ومرتكزاتها؛ وهذا يعني أحد أمرين هامين؛ الأول: أن الرؤية العمانية ماضية نحو أهدافها بثبات وعزيمة، ورغبة صادقة من لدن كل المسؤولين للوصول إلى مستويات عالية من الإنجاز، والثاني: أنَّ الحوكمة مسار طبيعي لمن أراد قراءة الواقع، ومعرفة مواطن الضعف والقوة، وبالتالي علاج الأول وتعزيز الثاني، للوصول إلى متطلبات التطوير المرغوبة؛ وفقًا للمؤشرات والمحددات التي تم اعتمادها سعياً لبلوغها.

والواضح للجميع وضوحا لا لبس فيه ولا اجتهاد الاهتمام السامي لمولانا السلطان المعظم منذ توليه مقاليد الحكم وبداية النهضة العمانية المتجددة؛ بالحوكمة وبيان حرصه على العمل بها، هذا الاهتمام الذي ترجمته العديد من المراسيم والأوامر السامية والتوجيهات والتكليفات والقوانين والقرارات، والتي وضعت القواعد الأساسية لتطبيق الحوكمة، وحددت المعالم البارزة لتطبيقها على المؤسسات المختلفة ولاسيما الحكومية منها، وواقع الحال يُشير إلى السير في هذه الجانب بخطى الواثق من بلوغ غاياته، المُطمئن إلى قواعد عمله وإجراءاته.

ومع إدراك الجميع لأهمية الحوكمة ودورها في البناء للمستقبل؛ إلا أنه من وجهة نظري لبلوغها كما نريد وتتحقق معه الأهداف؛ لا بُد من:

  • قراءة حقيقية لواقع كل مُؤسسة لمعرفة عناصر القوة والضعف فيها، والعمل على علاج ما يتطلب ذلك في كل مؤسسة على حدة أولاً، وهذا أمر مهم فأي خلل في مؤسسة ما يؤدي إلى ضياع جهد تحقيق متطلبات الحوكمة فهي جهد جماعي.
  • تحديد نطاق أعمال كل مؤسسة ومنع تداخل اختصاصات بعضها البعض، وربط جميع المؤسسات بنظام إلكتروني واضح ومحدد، يبيّن لكل دوره، ونطاق عمله، وبقاعدة بيانات واحدة، مع ما يصاحب هذا النظام الإلكتروني من تسهيل في الإجراءات وتبسيط في المعاملات، وتكون قراءة المؤشرات واضحة، يعقبها مبدأ الثواب والعقاب؛ ولنعلم أنه لا الثواب وحده ينفع ولا العقاب وحده ينفع، فلابد منهما معا، وهذا أمر فطري وحقيقية كونية لازمة.
  • الوقوف بشكل واقعي مع كل موظف في كل مؤسسة من حيث: حقوقه وواجباته وقدراته ومؤهلاته، وعناصر قوته، ومواطن ضعفه، والسعي الجاد إلى بلوغه مستوى معين من الكفاءة، ومن ثم النظر في إخضاعه لنظام الحوكمة المتعلق به كموظف، وهذا أمر بدهي؛ فالبناء على أساس صلب متين يضمن دوام البناء وقوته واستمراره، وتصديه لتقلبات الزمان، وحوادث الأيام، والعكس صحيح كذلك.
  • التأكد التام من توفر كل متطلبات تطبيق الحوكمة ومن مختلف النواحي، فلا مجال عند تطبيقها إلا بالقدر المطلوب من الجودة والأداء، والذي يضمن تحقيق أهدافها بدقة فائقة، وبلوغ الغاية منها بمستوى رفيع من الإنجاز، أما العمل بالحوكمة في نطاق محدود من الإمكانيات فهذا سبيل سيمضي بنا نحو نتائج لا تعكس واقعا، ولا تبني مستقبلا، ولا تطّورًا منجزًا.
  • من المهم كذلك علاج كل الإشكاليات السابقة، والنتائج التي ترتبت على العمل دون حوكمة ومتابعة ومحاسبة، فحقيقة الأمر أنه لا حوكمة حقيقية إذا بنينا على السابق بعلاّته ومثالبه وأخطائه؛ فأولا يجب تصحيح كل ذلك وإن تطّلب وقتا، ومن ثم العمل على أرض واضحة المعالم، صلبة الأساس، متينة القواعد، عندها ننطلق بكل عزيمة وثبات، ولا خوف عندها من خلل أو إخفاق، خاصة مع إرادة سلطانية سامية راغبة في إنفاذ الحوكمة، عازمة على الضرب على يد كل من يحد منها أو يقلّل من شأنها ودورها في عمان المتجددة دوما.
  • من الضروري تحديد الأدوار وبيان الأولويات، ومعرفة الجميع بذلك من خلال عمل إعلامي توعوي واضح ومحدد، يجعل للحوكمة نصيبا من وقته واهتمامه وبرامجه، في قالب عصري يتلقاه المتلقي بروح المحب، عندها تجد الحوكمة لعقول الناس وقلوبهم طريقا، وهذا يعززه الاهتمام التربوي والتعليمي بالحوكمة كقضية قيمية تتطلب منهجا مشرّبا بمختلف المواد الدراسية، وأهدافا تربوية سلوكية يعلمها المعلم، ويسعى لتحقيقها من خلال وسائل تربوية وتعليمية تصل للأهداف، عندها يأتي جيل مؤمن بالحوكمة كسلوك، وهدف ووسيلة.
  • الاستفادة من خبرات وتجارب الدول المختلفة والمنظمات والهيئات المهتمة بالحوكمة والأخذ بما يتوافق مع الأهداف والغايات العمانية، فالتجربة السابقة للآخرين والاستفادة منها منهج علمي غالبا ما يأتي بأكله الطيّب ونتاجه الحسن المحمود.

إن الحوكمة التي تستحقها عمان يجب أن تكون حوكمة نابعة من الجميع، ساعية للجميع، ماضية بأهدافنا الوطنية نحو غد مشرق، ومستقبل باهر، تتحقق من خلاله آمال وطموحات أبناء عمان جميعًا.