احتفظ بالمبلغ الباقي!!

 

عبدالله الفارسي

بعد خمس سنوات من الغربة والمُعاناة، بعد خمس سنوات من الشوق والتلهف والانتظارات، بعد خمس سنوات من البرد والارتجاف في بلاد المطر والصقيع، بعد خمس سنوات من الوقوف والنوم في المطارات، عاد "صخر" بشهادته الكبيرة؛ عاد حاملاً حقيبته الصغيرة وفرحته الكبيرة.

قرر والده وعمه وأخواله الثلاثة أن يفاجئوه باستقبال مهيب في صالة المطار، فهو الابن البكر القادم من أمريكا حاملا الشهادة المنتظرة، استأجرت عائلة أبو صخر وعمه وأخواله حافلةً (باص) من الحجم الكبير ذي الخمسين راكبًا وساهم الجميع في دفع مبلغ استئجار الحافلة؛ فأبو صخر جندي مُتقاعد لا يملك ما يكفي لاستئجار الحافلة، لذلك ساعده أخوه وأقاربه في تحمل نفقات الباص وسائقه؛ فالباص لأجل ولدهم الغالي فخر العائلة بل فخر القرية كلها.

صخر المتفوق عالي الهمة رفيع العزيمة، فهو الوحيد من العائلة الذي تميز بالذكاء والنباهة والصبر والصعود والتألق، إنه مفخرة العائلة كلها، وهو أوَّل فرد في العائلة يتخرج من أمريكا. لذلك قررت العائلة استئجار الباص الكبير ليحمل العائلة كلها إلى المطار.

أزف موعد وصول الطائرة العائدة بصخر وشهادته الكبيرة فامتلأ الباص عن بكرة أبيه بالرجال والنساء والأطفال حاملين الورود والرياحين والأزهار. وصلوا المطار تعلو وجوههم الضحات وترتسم على شفاههم البسمات. صفوًا صفًا واحدًا بانتظار صخر القادم بشهادته من أمريكا.. تلك البلاد البعيدة التي لا يعود منها سوى أولئك المحظوظين المميزين المتفوقين المتألقين..

إنهم الجيل المنتظر لبناء أوطانهم ورفعتها، إنه أحد فسائل الخير والسمو والصعود بالوطن.

دخل صخر إلى صالة القادمين وأول ما فعله سجد شكرا لله وحبا وشوقا وعشقا لهذه الأرض؛ فأنبهر الجميع بهذا السلوك العجيب واندهشوا لهذا الحب الفريد للوطن.

وحين أنهى صخر إجراءات دخوله من المطار، تفاجأ بأشكال الورود وأصناف الزهور التي صاحبتها زغاريد ساخنة وتصفيقات عالية وضجة جميلة تملأ المكان، فاشتعل وجهه خجلاً، وانفجر صدره سعادة وغبطة وفرحا.

استقبله والده بالأحضان وأنهالت على رأسه الزهور والوردات والقبلات.. وعانقته والدته المريضة بالشهيق وسكبت على كتفه الدموع والحنان المنحبس طوال عامين كاملين. ثم حملوه بالأكتاف إلى الباص في زفة كزفة العريس إلى العروس.

وطوال الطريق من المطار إلى القرية والغناء يصدح في أرجاء الباص يصفقون لبطلهم الفائز الحاصل على البكالوريوس من أفضل الجامعات الأمريكية بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، فيالها من مفخرة تستحق الانفجار والرقص والتحليق والطيران.

وصلوا قريتهم وهناك استقبله الجميع بالترحيب والتصفيق والمباركات والتهاني ودقت طبول الاحتفال وصدحت دفوف الفرح والمهرجان وفرشت بسط الطعام فامتلأت بأصناف الطعام وأنواع الشراب فأكل الصغير والكبير وابتهج الأطفال والنساء والشيوخ؛ فكانت بحق ليلة عرس جديرة بالتصوير مليئة بالإدهاش والتوثيق والرواية والتسجيل.

كل الحاضرين من شباب القرية في تلك الليلة كانت عيونهم على صخر وأفئدتهم تهمس بغيرة ممزوجة بالغبطة مغموسة بالطرب: "يالك من محظوظ يا صخر ينتظرك مستقبل مشرق باهر وغدٌ مضيء زاهر"!

نام صخر ليلته تلك في بيتهم البسيط بجانب أمه التي طالما اشتهى رائحة الحب من صوتها وتلهف لنكهة الحنان من يديها وتعطش لطعامها وخبزها المضمخ بروعة الأمومة وجمالها والتي افتقدها طوال غربته الطويلة في بلاد العم سام.

نام صخر حالماً بمستقبل موعود.. متلهفاً لوظيفة تليق بتفوقه وتعبه وتتناغم مع صبره ومثابرته..  متأبطًا آمالًا عريضة في التيسير والتفريج عن عائلته الفقيرة ووعوده الدائمة لأمه المريضة بتخصيص رواتب العام الأول كلها لعلاجها في الخارج وعاهد نفسه ووالده  بأنه لن يتزوج قبل أن تشفى والدته من مرضها وتستعيد صحتها وتسترجع عافيتها ونشاطها فهي مازالت في منتصف العمر ولم تتجاوز الخمسين من عمرها.

نام صخر على أنغام آمال وآحلام وردية، نام نوما عميقا دافئا بين أحضان القرية الهادئة وأنفاس عائلته الرائعة.

وبعد أن اكتفى من إطفاء أشواقه وتعبأت روحه من رؤية أهله وصحبه وأقاربه وتشبع من شوقهم وبهجتهم وسعادتهم بعودته، قرر الذهاب إلى العاصمة الكبيرة عاصمة النور والأمل؛ حيث المستقبل فاتحاً ذراعيه له.. ينتظره ويترصد له في كل شوارعها.  فنادته العاصمة الحبيبة إلى قلبه الأثيرة إلى نفسه: "أقبل يا صخر.. فقد حانت لحظة العمل .. وأزفت لحظة سداد الدين للوطن".

أقبل يا صخر أقبل حيث النجاح سيصافحك والأحلام ستعانقك على مفارق الطرق وعلى أطراف الجسور وفوق خطوط عبور المشاة وبين أرصفة الشوارع وعلى أكتاف البنايات الشاهقة.

مضى شهر ثم شهران ثم سبعة أشهر ثم سنة ثم سنتان. فتهشم القلب فوق بلاطات وزارة العمل وصالة مراجعيها الفخمة الفارهة، وذاب الأمل على نوافذ زجاجاتها اللامعة العاكسة. فأخذ يفترسه غمّ التفكير في حالة أسرته وفي مشقة والده الذي أثقلت كاهله نفقات الأسرة وتربية إخوته.

مات حلمه على مقعد وثير مريح تهب عليه نسائم تكييف مركزي شديد البرودة فتجمد من أثره القلب ويبس الفؤاد وقنطت الروح من كل شيء.

قال صخر لأحد أصدقائه: "في أمريكا لم أشعر بهذه المشاعر السلبية كما أشعر بها الآن.. أشعر بأنني غريب ولا أنتمي لهذا المكان، أشعر بأنني نكرة لا مكان لي في هذا الحيز ولا قيمة لي في هذا المحيط الذي يخنقني درجة الموت".

في إحدى الأمسيات قرأ إعلانًا في جريدة: "مطلوب بشكل عاجل موصل طلبات لأحد المطاعم الفاخرة في أحد أحياء العاصمة المرفهة". فلم يتردد في الذهاب إلى ذلك المطعم والتقدم لتلك الوظيفة وإلا سيموت من الجوع. وافق مسؤول المطعم على قبول "صخر" كموصل طلبات وحسب الاتفاق على "صخر" أن يقوم بالتوصيل بسيارته الخاصة، وبما أن صخراً لا يملك سيارة وكان طوال تلك الفترة منذ عودته من أمريكا يستخدم سيارة ابن عمه المبتعث في دورة تدريبية عسكرية لمدة سنتين. ولولا تلك السيارة وذلك المبلغ الذي وفره خلال دراسته في أمريكا، لكان وضعه المعيشي خلال السنتين المنصرمتين كارثيًا.

كان في أعلى لحظات اليأس والانهيار قسوة وأشد مواسم الإحباط وطأة كان ينزوي بعيدًا تحت ظل شجرة عظيمة ويمارس بكاءً حادًا لاسعًا.

وفي إحدى تلك اللحظات المريرة ضبطه والده متلبسا بالدموع والشهيق، فضمه إلى صدره وقال له: "لقد اسميتك صخرًا لأنني أعلم بأنَّ الحياة لن تكون رغيدة هينة رحيمة معك كما تعتقد.. فكن صلبا كالصخر عنيدا كالحجر".

اضطر صخر أن يطلب من والده كفالته في تحرير 60 شيكا لشركة التمويل مُقابل شراء سيارة صغيرة ينجز بها عمله كموصل طلبات ويبدأ بها حياته. باشر صخر مهنة توصيل الطلبات في العاصمة حفاظاً على كرامته وتجنباً لطلب مصاريفه من والده المتقاعد الذي بالكاد يتمكن من إعالة والدته وإخوته الخمسة.

فتحولت سيارة صخر الصغيرة إلى مصدر رزقه الوحيد ومؤهله الجديد لحياته القادمة ومستقبله المجهول.

ألصق صخر نسخة من شهادة البكالوريوس الأمريكية ذات التقدير المُتميز على زجاجة سيارته الخلفية.. ونسخة أخرى في الجانب الأيمن من زجاجة سيارته الأمامية لأجل الذكرى والأسى والاعتزاز.

وبدأ يبني مستقبله متبعثرًا في الشوارع قارعا أبواب المنازل والشقق الفاخرة حاملاً أكياس طلبات الطعام للهنود والأجانب شاكراً لهم لطفهم وكرمهم حين ينطقون عبارتهم الأخيرة الجميلة:

"Keep the rest for you" أو "احتفظ بالمبلغ المتبقي لك!".