خادمتي شربت الحليب!

 

أنيسة الهوتية

تعُجُ المحاكم حول العالم بمُختلف القضايا والشكاوى المُقدمة ضد أشخاصٍ مارسوا أنواعاً من الظُلم المُترف أو المُرهف على المُشتكي لضررٍ مُباشر قد وقع أو سيقعُ بقصدٍ أو بدون! ولربما وقع الضررُ أو سيقعُ على المُشتكي ليس من المُشتكى عليه ولكن من شيء يمتلكهُ كحيوانٍ مثلاً.

ومن أغرب أمثلة الشكاوى على الحيوانات (شكاوى طريفة) مثلُ شكوى البعض على ديك جاره الذي يُزعجُ نومهُ! أو على عنزة أو بقرة أو خرافه التي تدخل إلى حديقة الجيران وتأكل من زرعها! ولا نذكرُ الأضرار المُستقصدة والاعتداءات والاحتيالات الرسمية فتلك تستحقُ فعلاً العقاب الأليم حتى تتوقف الجريمة. ولكن ماذا لو أنَّ الجريمة لم تكُن فعلاً جريمة ولم يتسبب بالضرر على أحد إلا أن المُشتكى عليه لم يكُن إنساناً كفاية! وأستخدمُ جُملة (لم يكُن إنساناً كفاية) حتى أتفادى استخدام جُملة (كان حيواناً) لأنَّ الحيوانات لا تفعلُ مثلما يفعلُ بعض البشر ببعضهم البعض!!

وقراءةً لعنوان المقال: "خادمتي شربت الحليب"، وبالأدق جالوناً من الحليب! هذا بالفعل كان عنوان شكوى رفعتها امرأة على امرأة أُخرى تعمل في بيتها بالأجر اليومي في تنظيف البيت وترتيبه وغسل الملابس و"المواعين"، وفي يومٍ قال لها زوج المرأة التي تعمل لديها أن تُنظف الثلاجة من الأكل البائت وترميه في الزبالة، والعاملةُ المسكينة بما أنها من بيتٍ فقير لم تستطع أن ترمي الطعام مع الأوساخ، فوضعتهُ كُلهُ في كيس نايلون من طعامٍ مطبوخ بائت، وفواكه وخضروات شبه فاسدة، وخُبز، إلا الحليب المُنتهي الصلاحية لم تستطع أن تضعهُ في كيس النايلون مع بقية الأغراض ولم يُطاوعها قلبها أن تسكبه! فوقفت مكانها أمام الثلاجة وشربتهُ كُلهُ وبينما هي تفعلُ ذلك رأتها صاحبة المنزل و"هزأتها" وضربتها واتهمتها بأنَّها تسرق طعامهم وتأكل منه ولا يحقُ لها ذلك.

ولن أُكمل القصة الحقيقية هذه حتى ندع الاستنتاج يُرافقُ أفكار القُراء، ولكن علينا الإيمان بأنَّ العدل دائماً ينتصر عاجلاً أم آجلاً ولو بعد حينٍ أو دهور طويلة. وللأسف الشديد أن هُناك بشرٌ مُجردون من الإنسانية تماماً يتراءون أمام الناس بأنهم إنسانيون ولكنهم ليسوا كذلك! ومؤلمٌ أن نرى عُقوبةً شديدةً تنزل على مُتهمٍ بريء من قبل مُتهمٍ مُجرم تدعمهُ منافذُ القانون والآخرُ لا يدعمهُ شيء سوى دُعاؤهُ!

ولطالما تعلمنا من الزمن، والتاريخ، وأيضاً من القراءن الكريم أن المحكوم عليه ليس دائماً مُجرم ولكنه بريءٌ لم يجد بُرهاناً على براءته أو أن براءتهُ سترفعُ غشاء سترٍ على مظلومٍ آخر معه فيختار أن يتجرع الضيم لوحده ويطمعُ في عدم مُشاركته مع أحد! وهذا هو مثال الإنسانية حقًا.

والظرفُ والموقفُ والتُهمةُ مع الشخص المتهم وأخلاقه المأثورة مُعطياتٌ تشفعُ لهُ وإن كان في دائرة الإتهام مُسلطٌ عليه الضوء الأحمر! فكُلُ شيءٍ لهُ سبب، وإذا عُرف السبب بطُل العجب وكذلك بطُل الاتهام! وبينما أكتب هذه المقالة تذكرت شخصية "جان فالجان" في رواية الأديب الفرنسي فيكتور هوجو الشهيرة "البؤساء"، ولابُد بأن كُل زمنٍ كان فيه "جان فالجان" جديد باسم ورسمٍ مختلف.

دينُ الإسلام وكُل الديانات السماوية تحث الإنسان على التسامح، والتفاهم، والكرم، والعطاء، فمن ذا الذي يتشاجر مع المُحتاج مُحاسباً إياهُ على أمرٍ كان هو من الأساسٍ مُستغنٍ عنهُ! بعضُ البشر مُحتاجون إلى عمليات لإعادة إنعاش الضمير الميت فيهم! والإتهامات الباطلة التي يوزعونها يميناً ويساراً كبطاقات تهنئة العيد على كل من "هب ودب" حولهم ليست سوى إثبات بأن نُفوسهم سوداء ضالة، وكما قال المثل: كُل يرى الناس بعين طبعه.