المؤثرون الجدد

 

عائشة السريحية

"أستطيع أن أجمع مليون دولار في يوم واحد فقط"! يا له من مبلغ كبير يتم جمعه في ما لا يزيد عن 28 ساعة، لكن هذا ما استطاع فعله شاب مُهتم بالألعاب الإلكترونية لاعلاقة له بالإعلام ولا بالتسويق، ولم يتخصص يومًا في العمل التطوعي أو الخيري، أو يتلقى دورات مُكثفة في تلك المجالات، غير أنَّه استطاع أن يُقنع الناس من خلال قناة بث خاصة به على موقع يويتوب مُتخصصة فقط في الألعاب الإلكترونية والتفاعلية، في جمع مليون دولار من خلال نداء أطلقه لمتابعيه لجمع هذا المبلغ لمساعدة منظمة دولية إنسانية.

يسمونهم الجيمرز (Gamers)، إنهم شباب أو مُراهقين أو أطفال يلعبون الألعاب ويسجلونها ثم يبثونها عبر اليويتوب أو قنوات بث أخرى، وأحياناً يظهرون متفاعلين مع معجبيهم على الهواء مُباشرة، يتابعهم النَّاس بالملايين معظم متابعيهم من الشباب، قاعدتهم الجماهيرية عظيمة، يؤثرون في أهم شريحة من شرائح المجتمع (الشباب)، يتابعونهم أولاً بأول، يقلدون طريقتهم في اللعب أو الملبس أو طريقة حديثهم، يتأثرون بسلوكياتهم بالأدوات التي يستخدمونها، نوع الهاتف مثلاً سماعة الأذن نوع اللعبة وهكذا.

إنهم المؤثرون الجُدد، يكفي أن تدخل قناة أحد المشاهير منهم فتجد عدد الاشتراكات يصل لعشرين مليونا، يلي ذلك مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، ولكي تصبح مشهورا، لا عليك، لا يهم أن تكون مثالاً وقدوة، ولا يهم أن تكون حاصلاً على شهادات أكاديمية، ولا يهم أن يكون محتواك مهما وذا فائدة، المهم أن تستطيع أن تجذب انتباه الجمهور، يكفي أن تصدر مقطعا واحدا يُثير الانتباه، أو يتصدر الترند، فينتشر بين الناس بسرعة البرق وحينها تصبح بين ليلة وضحاها متابعاً من قبل الملايين.

خلال القرن الماضي كان الإعلام محط تركيز الحكومات والمنظمات والشركات التجارية، وعكفت كبريات الشركات على الترويج والتسويق الإعلامي والإعلاني لترويج منتجاتها، بل كان الإعلام (صحف، إذاعة، تلفزيون) بحسب التتابع المذكور من أهم مُرتكزات العمل السياسي والمجتمعي، فكانت الحكومات تحرص على أن يكون لها صحف وإذاعات وقنوات رسمية تتحدث بلسانها، بينما في الدول التي نشأت بها تعددات حزبية أو تيارات معارضة صرفت من ميزانيتها مبالغ ضخمة كي يكون لها مصادر إعلام تابعة لها.

وفي منتصف القرن العشرين كانت الصحف والإذاعات، هي المصدر الوحيد للنَّاس لتلقي الخبر والمعلومة، فكان الناس ينصتون باهتمام لما تبثه الإشاعات المسموعة، ويحرص القراء على شراء الجريدة الورقية ليطلعوا على كل جديد، وإبان الثورات ضد المُستعمر الأجنبي في الوطن العربي كان الثوار يحاولون نشر المنشورات اليدوية، بإمكانات بسيطة رغبة منهم في أن تصل أهداف ثورتهم ضد المُستعمر لمسامع شعوبهم.

وفي نهاية القرن القرن العشرين، توسع الإعلام بشكل مختلف، فبعد ظهور القنوات الفضائية، أصبح التلفزيون هو المكتسح لبقية المصادر، فتأسست قنوات الأخبار المتخصصة، ونشأت قنوات تجارية بحتة، وقنوات سياسية، وأخرى دينية ودعوية، وأخرى وثائقية، وأخرى للأطفال، وغيرها للمسلسلات والأفلام والأغاني وهكذا تتابعت التخصصات والرغبات في إنشاء قنوات على التلفزيون، فأصبح للتلفزيون موقعاً مهماً في كل منزل.

لكن الحال اختلف مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، في الألفية الثانية بعد الميلاد اكتسح الإنترنت معظم بلاد العالم، وانطلقت محركات البحث، ولمع نجم برامج التواصل الاجتماعي وأصبحت منبر من لا منبر له، واستبدل المذياع والتلفزيون بالهاتف النقال، تأتيك الأخبار مباشرة فور حدوثها، وتتأكد من صحتها بضغطة زر، ولك أن تبحث وتحصل على المعلومة، أو تنشر الإشاعة وتضلل الناس، وتفاعلت الدول والحكومات مع مؤسسي هذه الشركات ومحاولة ضبط المنشور والمحتوى، رغم صعوبة السيطرة التامة على ما ينشر في هذه الوسائل.

وقد شاهدنا ما سمي بـ"ثورات الفيسبوك" والتي ظهرت إبان ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي"، فأصبح منصات للتجمعات والتحشيد؛ بل إنَّ هذه البرامج استطاعت أن تفتح منافذ لا يُمكن بأي حال أن يتم تقنينها أو حصرها، وأتقن الجميع استخدام محركات البحث وإيجاد طرق للتحايل على فتح المواقع المحظورة، ونشأت مواقع للعالم الخفي يتم فيها تجاوز الخطوط الحمراء رغم تشديد الحكومات الرقابة عليها.

في المقابل، أنشأت الدول قوانين للحماية والحد من الجريمة الإلكترونية، فسنت القوانين التي تضبط التعاملات بين الأفراد حيث جرمت التعدي على الغير من خلال هذه الوسائل لما لها من أهمية، وكذلك للحماية من الابتزاز الإلكتروني الذي انتشر في الآونة الأخيرة؛ بل وتعدى الأمر لانتهاك حرمة الأشخاص واستخدام هواتفهم أو وسائل التواصل الاجتماعي الخاص بهم، في إلحاق الأضرار بهم سواء من خلال طلب المال أو بث أشياء لا أخلاقية من حساب الضحية بغرض الإساءة الشخصية له، وتجريم الإساءة للغير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي سواء كان بقصد الإهانة والازدراء أو القذف والسب والتعدي.

والجميل أن القانون كان واضحًا وصريحًا، وكانت الجهات المعنية ذات الاختصاص في نظم التقنية والمعلومات قادرة على ضبط مثل هذه الجرائم، وإحالة الأدلة للجهات الضبطية والقانونية.

ورغم أنَّ هذه البرامج سهلت الاطلاع على كل ما هو جديد وقاربت بين الثقافات وساهمت في تقبل الاختلاف والاطلاع والمشاركة لكثير من الفعاليات والأحداث، وكانت وسيلة مفيدة للتسويق والترويج التجاري، حيث إن إعلانات القنوات مثل اليوتيوب أو برامج التواصل الاجتماعي، تصل للجميع فبمجرد أن تلقي نظرة على حسابك أو تبحث عن معلومة ما في هاتفك عبرها، تجد الإعلان الذي ينتظرك فيلفت انتباهك أحياناً أو تتجاهله وتتخطاه، ولكنه يظل في عقلك اللاواعي لكثرة التكرار، إلا أنها كانت خطيرة للغاية في بعض الأحيان.

وحول شخصيات وسائل التواصل الاجتماعي واللاعبين الجيمرز، نجد أنهم أصبحوا هم المؤثرين الجُدد، ولا نستطيع أن نكون في حالة الإنكار ونعارض ذلك، بل علينا أن نخلق مؤثرين أيضًا بنمط مغاير وإيجابي وجذاب ومنافس، يتم تدريبهم وتقديم كل ما يلزم لجعلهم نماذج ناجحة ذات محتوى جاذب وله تأثير إيجابي، بدلاً من كثرة الشكوى والتذمر، فأطفالنا وشبابنا لم تعد كلمة (لا) تنههم عن متابعة شيء هم يرغبون في متابعته ونحن لا نرغب به، ولم يعد الزجر يفيد في ظل قناعات مستقاة من الإنترنت، ولم يعد الوالدان هما المرجع الموثوق بقدر ما أصبح الإنترنت.

لذلك أفضل الحلول هي إيجاد البديل الأفضل، وتعاون كل الجهات سواء الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني، في خلق نماذج إيجابية متوافقة مع واقع المتغيرات في ظل عالم فتحت أبوابه على بعضها دون وجود حدود، فلم يعد جواز السفر هو الوثيقة الوحيدة لنقلنا للبلدان الأخرى، فيكفي للتنقل وجود هاتف وإشارة إنترنت.