فلسفة التاريخ.. والموضوعية!

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"فلسفة التاريخ محاولة لفهم حركة التاريخ، وضبط القوانين الموضوعية التي تتحكم في تسيير هذه الحركة" جورج الفار.

---------

لو تتبعت حركة التاريخ وبدأت منذ نشأة التاريخ القديم ومظاهره وصولًا لتاريخنا المعاصر، وتمعنت بعقلية الباحث النافذ البصيرة، لوجدت أن الموضوعية تطغى على تحركات صفحات التاريخ، ومتتابعات سطور الكتابة، واسترصاد العبارات الدالة على الوصف والفهم والجدل والتقييم والتحليل والحدس والتخمين.

مجال الحديث ليس مجاله مقال عابر، لكني سأبرز بين مسافات التاريخ الزمنية مرادفات متقاربة الفكر والتفكير ومنسجمة الافكار. ولعل ابرز مايدرسه دارسو وباحثو التاريخ في منطقتنا هما التاريخ الإسلامي والتاريخ الحديث و المعاصر (أقول أبرز وليس كل)، ولا شك أن هناك ثغرات في بعض الاحداث يستشفها الراصد الباحث ذو الهمة في كلا القسمين من التاريخ، وتبدأ الموضوعية بنثر تساؤلاتها المتفرعة إلى إستفهامات وإستجوابات لتدوينات لو دققت بحذافيرها لوجدت إشكاليات تطرح نفسها وقد لاتجد إجابة، وبسبب ظروف موضوعية أيضا، والمعروف لا يُعرَّف!

سؤال مهم: هل الموضوعية هي الأساس في كتابة التاريخ؟

إذا كانت ملابسات وتفاصيل الحدث المؤرخ له غير موضوعية ولاتمت للموضوعية بصلة (يحدث كثيرًا مثل ذلك)، فأين يجد كاتب التاريخ ضالته الموضوعية؟

ببساطة الموضوعية هي أن تكتب الحدث كما هو، كما نطقت تفاصيله وكما تنفست ملابساته، هنا أنت ككاتب مؤتمن أديت واجبك وألف شكر، وبعد ذلك تبدأ مهمة تفكيك عناصر الحدث وتشريحها للبحث والتحليل لعل الموضوعية تكون أنزوت في إحدى زوايا الحدث.

هنا أؤكد على الجانب العملي التطبيقي وليس فقط النظري في عملية كتابة التاريخ وتأريخ الحوادث، هنا فارق بين أن تكتب رواية أو عملا أدبيا تستطيع كمؤلف أن تتحكم في خيوطها وعناصرها وبين أن تكتب تاريخًا حقيقيًا.

الموضوعية نقيض الجدل، وأي باحث في التاريخ لايتسم بالموضوعية ويتجه للجدل الأفضل له أن يبحث عن عمل آخر !

لماذا كتبت الفقرة السابقة؟ حتى لا أضع مجالًا للجدال ومقارناته العقيمة، لاحظ أني لم أضع عناوين لأحداث معينة أو أماكن تحدث عنها التاريخ أو شخصيات أثارت الجدل، حسنًا وحتى لا يقع في الظن ما يقع سأتحدث باقتضاب عن شخصية ملأت التاريخ الأدبي جدلًا وبحثًا وتنقيبًا ونقاشا وأخذًا وردًا، إنها شخصية القائل:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

بالطبع معروف المتنبي الشاعر الذي فاق الشعراء شهرة وجدلًا، هذا الشاعر أدخل البحث التاريخي إلى الأدب رغما عن المعارضين، وأقصد معارضي دخول التاريخ لأوراق الأدب والتسلل بين أبيات الشعر؛ لأن المتنبي كل سيرته تاريخ متحرك على الأرض، خذ مثلا أيامه الزاخرة في حلب وبمعية سيف الدولة، وأيام مصر وسيدها ذاك الوقت كافور الإخشيدي، والمدح والهجاء، والفرح والآلام، يكاد المتنبي أن يكون لنفسه تاريخًا متفردًا عن غيره من الشعراء، لا أظن أنه في تاريخ الأدب ظهر شاعرًا مثيرًا للجدل مثله، وباعترافه:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهرُ الخلقُ جراها ويختصم

أعتقدُ أن بروز المتنبي كشاعر علم وتاريخي هو بسبب قربه من أصحاب القرار السياسي، ومآلات ودلالات هذا الوضع النخبوي ذي الجاه والنفوذ، تصور أنه كان شاعر البلاط، رغم وجود أبي فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة، والحمداني أشهر من أن يُعرّف، وتصور رجلًا بشخصيته ما الذي سيواجهه من اعتبارات التقريب والتغريب، التقريب لأنه أصبح قريبًا لصاحب القرار وقد يعد من كبار الحاشية وتخيّل نفوذه وقتذاك، والتغريب لأنه- من وجهة نظر المناوئين أو الحساد- غريب عن البلد وليس من أهله، وهنا تتجسد النزعة القومية، لكنه وكما يعلم الجميع برغم كل الاعتبارات ولكثير منها، ما زال هو الشاعر الأكثر أهمية في تاريخ الشعر العربي.

للتاريخ فلسفته الخاصة المتخصصة كما فلسفة أي بحر من بحور العلم، الإنسان له تاريخ والطب والتعليم وحتى ميكانيكا السفن البخارية ستجد من يؤرخ لها، ويُقسِّم حقبها الزمنية.. فالتاريخ بحر عميق لا يستطيع السباحة فيه إلا من امتلك أدواته وتقنياته وأخلاقياته الموضوعية.. وركز كثيرًا على الأخيرة فهي العمود الفقري.

قال تعالى: (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة: 32.