د. خالد بن حمد الغيلاني
@khaledalgailani
تُمثل الشورى ركيزة مهمة من ركائز الحكم، وقاعدة أساسية من قواعد التشريع والتعامل بين الحاكم والمحكوم، ومنذ قديم الأزل وهي ثابتة في المجتمعات مع اختلاف طريقة التعامل، وآليات التنفيذ، والمساحة الممنوحة لها كمبدأ من مبادئ الدول والمجتمعات.
ولقد حظيت الشورى في عُمان بما تستحقه من المكانة، وكانت في كل عصور عُمان الزاهرة، ركنا متيناً من أركان الحكم، وأساسا ثابتا من أسس العمل في الدولة العُمانية، ضاربين في ذلك أروع الأمثلة، وللمتتبع للتاريخ العُماني أن يدرك هذا الأمر بوضوح تام، وجلاء لا يقبل التأويل، كما كان للشورى العُمانية أثرها الواضح في ترسيخ مفهوم الشراكة الحقة بين الحاكم والمحكوم.
ومضت الشورى العُمانية شاقة طرقها على خطى ثابتة، وأرض صلبة، يدعمها الرغبة العُمانية الصادقة لتكون واحدة من نظم الحكم العُماني، ومرتكزا للعمل الوطني على الحقيقة، وبما يمكّن لها في القيام بدورها في تماسك الدولة، وتعاضد أركانها.
ومع بدايات النهضة العُمانية، ومنذ الخطاب القابوسي الأول وهو يؤكد على المشاركة الوطنية، والعمل الجماعي، إيمانا منه- طيّب الله ثراه- بدور الشورى وأهميتها، وبلورتها فيما يتناسب ومتطلبات الدولة العصرية، بعيدًا عن غلو التدخل في كل شيء، وسلبية التعامل مع الأمور المختلفة، وكما أرادها- رحمه الله تعالى- متدرجة متطورة حسب مقتضى الظروف ومتطلبات الأحوال؛ بدأت بمجلس مختص في الزراعة والأسماك، مرورا بالمجلس الاستشاري، وصولاً إلى مجلس للشورى؛ وهو كذلك مرّ بمراحل متطورة من حيث المشاركة المجتمعية، والاختيار، والصلاحيات، إلى أن وصل إلى توسيع صلاحياته في العام 2011 من خلال إدخال عدد من الصلاحيات تتناسب مع متطلبات المرحلة وضرورات المجتمع.
ثم مع تسلّم مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- لمقاليد الحكم؛ انطلق جلالته بمسيرتنا العُمانية المتجددة، ونهضتنا نحو آفاق البناء والتنمية، انطلق بها من مجلس عُمان، مؤكدًا مكانة هذا المجلس بمجلسيه الدولة والشورى، ودوره الوطني خلال المرحلة المقبلة، وقد ظهر الاهتمام السامي بمجلس عُمان، والحرص على تطويره، والرغبة الأكيدة من لدن جلالته على القيام بدوره، والعمل بثبات وعزم وعزيمة مع مختلف مؤسسات الدولة؛ كل ذلك أثبته المرسوم السلطاني السامي (7 /2021) بإصدار قانون مجلس عُمان، والذي مكّن مجلس الشورى باعتباره واحدا من مكوّني مجلس عُمان؛ مكنّه من القيام بدوره، وتنفيذ مهامه بالشكل الذي يحقق طموحات وآمال أبناء الوطن الغالي.
لقد حدّد القانون صلاحيات مجلس الشورى، بوضوح تام، وأشار إلى المطلوب منه بصورة جلية لا تقبل التأويل، فهو معني مع مجلس الدولة بمراجعة القوانين التي تُحال إليه من الحكومة، أو اقتراح القوانين من خلال مجلس عُمان كوحدة واحدة، ويتم هذا وفقا لإجراءات حددها القانون، وفصلتها اللوائح. وبالتالي مُطالبات البعض بتدخل المجلس في تعديل اللوائح المعمول بها في بعض أجهزة الدولة لا تقع ضمن نطاق الاختصاص المُباشر، وإنما تتم من خلال تعديل القانون الذي فسرته تلك اللائحة، إلا من خلال التوصية، ولا يمكنه إلا التوصية للجهات ذات العلاقة وفقاً لبعض الإجراءات، ومن خلال عدد من أدوات المتابعة التي نص عليها القانون في مادته السادسة بعد الخمسين؛ ويمكن أن نشير إليها كما يلي: البيان العاجل، طلب الإحاطة، إبداء الرغبة، طلب المناقشة، مناقشة البيانات الوزارية، والاستجواب، ولكل أداة منها ضوابط محددة وواضحة؛ منها ما نص عليه القانون، ومنها ما ترك للائحة المجلس بيانه وتحديده فيما يتفق تماماً مع مواد قانون مجلس عُمان.
ويخطئ البعض ممن يعتقد أنَّ المجلس مقيّد في صلاحياته، أو دوره محدود؛ لأنَّ الفلسفة العُمانية تقوم على تكامل المجالس المختلفة في الدولة، وتناغم العمل بين السلطات الثلاث، دونما تداخل، أو تدخل يُؤثر على سير العمل في المنظومة العُمانية، ولأنَّ السلطات الثلاث خاضعة لإشراف مولانا السلطان ومتابعته، فلابُد أن تكون مكملة لبعضها البعض، ساعية من خلال ما منحها المشرع من صلاحيات إلى القيام بدورها الوطني وواجبها المجتمعي دون تجاوز لمواد القانون، أو إجحاف لها.
وحقيقة الأمر أن من يقترب من عمل مجلس الشورى، واستخدامه لأدوات المتابعة، يدرك تماماً دوره الفاعل، وسعي أعضائه الكرام الذين نالوا ثقة المجتمع؛ فهناك أكثر من 12 مشروع قانون أحيلت من الحكومة أو تقدم بها المجلس، وحوالي 147 سؤالا في شتى المجالات التي تهم المجتمع، ويعمل عليها المجلس، و127 طلب إحاطة لمختلف الجهات الحكومية، و8 طلبات مناقشة، و28 رغبة في كثير من المواضيع التي تعني المجتمع، وتشغل بال أفراده، و6 بيانات عاجلة تطلبتها المرحلة وقضايا المجتمع، وهذه الأرقام خلال دور واحد فقط من أدوار الانعقاد السنوية والمحددة بأربعة أدوار خلال الفترة الواحدة، وهي متنوعة بشكل يدل على رغبة المجلس في تطوير أدواته والمواضيع التي يتناولها الأعضاء فيه بحثاً ودراسة وتمحيصاً ومتابعة.
وكل هذه الأدوات لم تغفل أي أمر من الأمور التي تشغل المواطن، وتمثل أولوية عنده خاصة ما يتعلق بالباحثين عن عمل، والمسرحين، وظروف الترقيات، والوضع الاقتصادي، وارتفاع الأسعار، وغيرها من القضايا التي تهم جميع أبناء الوطن.
إن الشورى العُمانية أصبحت اليوم مسيرة واثقة الخطى، ثابتة الأركان، قادرة على التعاطي مع مختلف المستجدات، ملتزمة بما نص عليه القانون، ومجلس الشورى ماض في أداء واجبه كما يجب، وبتوازن مشهود له، وغيرة وطنية يشار إليها بالبنان، وعلينا جميعاً دعم هذه المسيرة الشورية الرائدة، ولتكن الحقيقة المعلومة نصب أعيننا؛ فأعضاء المجلس الكرام نتاج اختيار المجتمع، وثقة بنيه، فإن كان للبعض على البعض ملام أو عتب؛ فهذا أمر طبيعي وصحي، وعلينا جميعا أن نحرص على قول الكلمة الفصل عند الانتخاب، فهو حق لكل مواطن كفله القانون، وواجب على كل مواطن أوجبته الوطنية الحقة والمواطنة الصادقة.
ومع اقتراب دور الانعقاد الثالث من هذه الفترة نتمنى لمجلس الشورى التوفيق والسداد، والقيام بدوره، متطلعين جميعاً إلى مُساهماته الوطنية، واثقين من قيامه بدوره الوطني المنشود.. وفق الله تعالى مولانا السلطان ووفق مختلف المؤسسات الوطنية للقيام بدورها خدمة لعُمان وسلطانها وأبنائها.