الآخرون هم الجحيم

عبدالله الفارسي

لا  أدري متى قرأت عبارة جان بول سارتر هذه ( الآخرون هم الجحيم) .

لا  أتذكر متى قرأتها اول مرة . هل في سنتي الجامعية الأولى  .. أم في السنة الأخيرة سنة الغليان الروحي  و النضج النفسي والطفح  العقلي .


لم أفهمها ولم أعرها اهتماما وتجاوزتها  كما أتجاوز لوحة إعلانية سخيفة في شارع هزيل ملىء بالمطبات والحفر .


لكنني مع الزمن  تذكرتها واستوعبتها تماما لتستوطن قمة الهرم العقلي والتحليلي في منظومتي الفكرية .


يالها من جملة عجيبة ( الآخرون هم الجحيم) جملة ناصعة لا يشوبها القذى ولا يعلوها الغبار .



مجرد عودة سريعة بالذاكرة إلى الوراء وتتضح لي الصورة جلية صافية بأن الناس الذين عبروا حياتنا هم مصدر الآمنا هم منبع شقاءنا وهم سبب سقوطنا وجراحنا وهم سبب تحطمنا وانكسارنا .


الآخرون بلا شك  هم من يحرقون أحلامنا .. وهم من يدمرون مستقبلنا...!!

.......


1 / ..
أخبرني صديق  يقول : 

منحتني وزارة الإسكان قطعة ارض في منطقة جبلية بعيدة عن الخدمات تسكنها العقارب  وتستوطنها الثعابين  .. ولأنني فقير من فقراء هذا الوطن لا اعرف أحدا  من المشايخ  والأعيان والمكرمين  والمنتفخين  فقد  فشلت في الحصول على قطعة  أرض بديلة في مكان يصلح للسكن  فأضطررت بعد ثلاث سنوات من المراجعات والمناوشات مع دائرة الإسكان الى الرضوخ و الإستسلام  و بناء تلك القطعة الوحيدة التي أملكها والسكن في ذلك المكان الموحش ..


يقول انتهيت من بناء مسكني فكان  أقرب منزل مني يقع  على بعد  500 متر بالضبط لذلك كنت في راحة تامة .. لا أحد يزورني سوى الثعابين  وأصناف غريبة  من السحالي وكان السلام بيني وبين جاري البعيد من خلال التلويح البعيد باليدين.

يقول صديقي لذلك وصلت لقاعدة حياتية مهمة وهي : (
كلما لوحت لجارك بيديك من بعيد حصنت نفسك من الأمراض الجلدية والعلل العصبية  !!)


ثم أردف :
كانت الثعابين  تزورني يوميا لدرجة انها أصبحت مألوفة لدينا وكنت أضع لها بقايا الطعام والشراب أمام الباب .. حتى أطفالي استأنسوها وصاحبوها ولم تعتدي يوما على حرمة بيتي ولم تلدغ   أحدا من  أطفالي .



و بعد سنتين جاء الجار الأول ثم الجار الثاني ثم الجار الثالث ثم الجار الرابع وأحاط الجيران بيتنا من جهاته الأربع .


طبعا هربت الثعابين بسبب أعمال الحفر  والبناء ..
وجاء بالنيابة عنها الجيران الجدد بأطفالهم وزوجاتهم ومصائبهم ومشاكلهم  لأعيش معهم الألم وأتجرع منهم  المعاناة ..


ثم همس في أذني بكل حرقة وحرارة :
( لقد كانت الثعابين ارحم بكثير من هولاء الجيران ياصديقي )

ثم تثاءب بعمق خاتما حديثه معي :  أصارحك القول ياصديقي  لقد اشتقت فعلا  لرؤية تلك الثعابين الجميلة  والاستمتاع بمنظرها  بعد أن حول جيراني واولادهم حياتنا إلى جحيم .



.............

2 / ...



غالبا ما أعشق الترحال في الأماكن المقفرة من البشر ..
اهيم على وجهي في البراري  .


في إحدى جولاتي وأنا إطوي بسيارتي أماكن مقفرة خالية فارغة  إلا من بعض الشجيرات وكثير من الرمال والحصى .


تفاجأت ببيت يتيم
منزل وحيد في مكان خال من كل شيء سوى من الهواء والشمس والنسيم ..

بعيدا  عن الشارع ويبعد عن اقرب نقطة سكنية حوالي 9 كيلو مترات .


اقتربت من المنزل اليتيم  وضربت بوق سيارتي مرتين فخرج لي رجل قد تجاوز مرحلة  منتصف  العمر يملأ رأسه ووجه الشيب   ولكنه  ليس بعجوز  و  لم يغزوه الترهل ولم يقترب من جسده الوهن  والتضعضع ..

كان صلبا كشجرة سدر عنيدة .
وحين صافحني باغتني
بيدين ضخمتين مدرعتين  بأصابع  طويلة لم  أرى مثلهما من قبل ..
ولما  قبض مصافحا  على يدي  المسكينة البريئة  كاد أن يعجنها ويحولها إلى فطيرة
جبن مطبوخة.

كانت يملك يدا صلبة كأنها قدت من خشب ولكن أيضا كان لديه قلب نقي برائحة شجرة صبار غسلها الليل والندى.
....


أخذ يتأملني بعينين حادتين لامعتين كعيني طائر جارح .


رحب بي أيما ترحيب  ودعاني لشرب القهوة.


ما أطيب القهوة حين تذوقها في الصحراء   من اهل البادية.
لها الطعم الاصلي مرارة الحياة
وتعبق بنكهة الفقر والشرف  والشقاء والكرامة .

...


جلست برفقة هذا البدوي الشامخ شموخ صخرة في عرض البحر .

وكان برفقتنا أبناءه الأربعة ..


كلهم كانت تملأ وجوههم البسمات وتكسو عيونهم الشجاعة وتبعث من أفواههم الجائعة رائحة التحدي ..
تحدي الشمس والفراغ والفاقة في هذا المكان المقفر  .



كان السؤال الذي يدور في حلقي ويتمضمض في فمي ..

لماذا تعيش هنا بعيدا عن الناس أيها الرجل .؟؟

لم يجبني على سؤالي في حينه وتجاوزه بثرثرات مشوقة وقصص خفيفة وجميلة  .


ولكن حين  ودعني ورافقني الى سيارتي ابتسم ابتسامة فاتنة كاشفا عن أسنان بيضاء مكتملة البنيان.

وقال لي :( الناس عذاب يا بني ابتعد عنهم اذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا  )  .

أنا أعيش هنا منذ ثلاثين عاما لا علاقة لي بالناس ولا يهمني في الحياة سوى إطعام أسرتي وبهائمي وحمايتهم.



الناس بلاء حقيقي يا بني كلما ابتعدت عنهم اقتربت من السعادة وجاورتك الراحة ..
وكلما اقتربت منهم اقترب منك العناء وجاورك الشقاء والبلاء.



ودعته وداعا دافئا حميما وابتعدت عن بيته سالكا طريقي الذي جئت منه .

فقرعت مقولة سارتر العظيمة  من جديد  في جمجمتي :  ( الآخرون هم الجحيم ) .

متمنيا من الله أن يرزقني ذات يوم قريب مسكن صغير في مكان خال بعيد عن البشر .. لأكمل الحياة مستمتعا بالعزلة متلذذا بالهدوء والخلوة متناغما مع  الوحدة  والسكينة.