من أين أتيتِ؟

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

رجعت الحياة إلى شريانها تضخ بالصحة؛ وعدنا إلى آفاتنا المتأصلة في نفوسنا، التي لم يتوصل العلم حتى الآن لإيجاد الفاكسين المناسب لها. لعل من أهم الآفات التي نعاني منها هي مرض العظمة الذي يترجمه حرف "الدال" الفخم، أُصيبت به شريحة منّا يُفترض أنها المثقفة والحاصلة على قدر لا يُستهان به من المعرفة يؤهلها لتكون الأكثر إتزانا.

لا شك أننا بحاجة لجرعات وقائية؛ ممّا نضمره في أنفسنا، من غرور معرفي دون معرفة. فأينما وُجد الغرور أزاح من طريقه المعرفة. لفت نظري أن البعض عندما نناقشهم أو نناديهم بأسمائهم يقولون: دكتور/ دكتورة، لو سمحت!

فيجف الحلق وتتبعثر الكلمات هاربة ليحلّ محلها: عفوا دكتور، يلحقها الصمت ومحاولة الاستجداء الذهني للموضوع وفكرة النقاش، التي ظعنت في رِحال المُدبِرين؛ فتنسحبُ من النقاش كمحارب يعود أدراجه؛ إثر تعرضه لهزيمة تخللتها خيانة لم تكن مُتوقعة.

فوجئتُ ذات يوم بقرار أسمعه من إحدى الزميلات التي، لم تكن على قدر عال من التحصيل الدراسي، تقول: لن أرتاح ولن يهدأ لي بال حتى أرى الدال مُتوجة أمام اسمي، " د. افتخار بنت باهي بن فخرالعرب التبجيلية". قلتُ جميل هذا الطموح تبارك الرحمن، لقد أصبحتِ مُحبة للدراسة، ضحكت قائلة: بل أبني اسمي ومكانتي وكياني، إنْ لم أُتوج اسمي بالدال فلن أكون "افتخار" وسترين ذلك عمّا قريب، وتحضرين حفل تخرجي وتجلبين معك هدية. وما هي إلا سنتين ونصف السنة، حتى حضرتُ حفلة تخرجها وبيميني باقة ورد للدكتورة افتخار، تذكرت وقتها مقطع من أغنية "هل عندكِ شك" لكاظم الساهر.

قاتلتي ترقص حافية القدمين في مدخل شرياني // من أين أتيتِ وكيف أتيتِ وكيف عصفتِ بوجداني

اقتربت منها هامسة في أذنها: في أيّ جامعة تخرجتِ، وكيف بهذه السرعة؟!

غمزت بعينها مبتسمة: "هل عندكِ شك؟! تابعتْ حديثها، الجدّ والاجتهاد يا عزيزتي، يختزلان الوقت، ويجعلان من السنة شهرا ومن الساعات ثواني. قلتُ حقاً، فلنفرح بنجاحك، ونسمع شيئاً يليق بالمناسبة. علتْ أنغام الموسيقا مع ترانيم الفرح على أصوات المهنئين.

ياهلا بالحلم وينك من زمان // ياحلاتك وأنت متحقق بيدي

كان بيني وبينك امتحان // هانت ظروفه وعدّى كل شيء

حملني ذلك على فض النزاع، بين أذني الموسيقية الصاغية لصوت الطرب، وبين حجم الاحتجاج الذهني على قدر التعاسة التي لا تزال عالقة في أذهان من هم بأفكار ومفاهيم دون الصفر، لا ترقى للوصول ولن تصل؛ ولن يجدي معهم نقاش ولن يُثمر بهم لقاء؛ فهم يقرنون درجات العلم، بعدد الأوسمة والشهادات العليا ومجالس التكريم وكلمات الإطراء؛ فقد رحمتُ لحظتي، هي أهم عندي من آفاتهم؛ فالنظر لباقات الورد على مختلف الزوايا يأسرني، ولا يدع مجال إلاّ للسرور، بعض الحلوى مع رشفات القهوة، ورقصات وإيقاعات الطبل والمدار أطربتني، ثم إنّ جاتوه التخرج بلوجو ومذاق نكهات "دو شوكليت" قد لفت نظري وسيّل لُعابي منذ دخولي القاعة، فلم الإحتجاج الذهني الذي ينقص لحظتي، فاللحظات تذهب دون أن تعود، لذلك وضعت احتجاجي جانباً في حقيبتي ريثما أعود للبيت وأشكوه لقلمي وقرطاسي.

بعد وصولي المنزل بدأت أتساءل، هل كنتُ حقاً في حفلة تخرّج "افتخار" أم كنتُ عازفة كمان، واقفة على رفات رأسي، أُسلّي بمعزوفتي فرق الإنقاذ، لحثهم على انتشال ما تبقى من شظايا ذهني تحت الركام؛ إثر الزلزال الذي ضرب رأسي في هذه الليلية.

************

للتوضيح:

  • "افتخار بنت باهي بن فخر العرب التبجيلية" اسم ثلاثي يدل على العظمة والكبرياء من وحيّ خيالي، لا يمت بصلة لأيّ أحد إلاّ لموضوعي، لخدمة الفكرة وإيصالها.
  • "هل عندك شك" أغنية غناها كاظم الساهر من كلمات الشاعر نزار قباني.
  • "يا هلا بالحلم" أغنية للتخرج غناها حمود الخضر من كلمات وألحان سيف فاضل.