عائشة السريحية
هرب ذات ليلة طاويًا ما تبقى من أجنحته المكسورة، يعانق الخيبة ويمتطي السواد، لقد ارتكب جريمة يُعاقب عليها الجني بالحرق، كانت العفاريت والمردة يلتحفون الريح لشدة سرعتهم، لا يملكون أنوفاً ولكنهم يعرفون رائحة البشر حين تلتصق بجني.
ريحان الشاب ذو المئتي عام أراد اكتشاف العالم الموازي، أثاره كثيرا عالم البشر المحرم عليه، فمنذ طفولته يتلقى التعليمات بأن ما تحرمه القبيلة لا يشفع له نوع السبب، الشعور بالمظلومية والاضطهاد لا يزول بسهولة بمرور الزمن، ففي قرارة نفسه كان ثائرا لم تنهه تلك الأحكام عن مُلاحقة شغفه بالاكتشاف وتعلم تجربة جديدة. يا له من فضولي ومشاكس! لم يستطع مقاومة اللعب مع الأطفال لسنوات طويلة، كانت تلك الضحكات على وجوههم البريئة أو محاولتهم اللحاق بذلك الطيف اللابشري تنشيه لحد الثمالة. حين كبر واشتد ساعده، لم يعد الظهور بطيفه للأطفال الذين لا يجيدون الكلام يشبع فضوله، لقد شب عن الطوق.
في رحلته الفضولية التقى بفتاة بشرية تعمل بائعة للخبز، لها وجه دائري ممتلئ وعينان صغيرتان وبنية مكتنزة، لا يوجد في حياتها شيء يثير فضول البشر، وحيدة لدرجة أنها تمضي وقتها وهي تتحدث مع النار، كانت تشكو لتنورها الذي تطعمه الحطب اليومي قسوة الأيام، وحين تبدأ ألسنة اللهب في التصاعد وتلفح محيطها بسعير اللهيب، تزهو فردوس بفوزها الصغير، ثم تبدأ حركتها بالتباطؤ، ومع كل حركة لتقليب الجمر المتقد، تبدأ في الحديث، كانت تسرد أمنيات تحوصلت في خلايا مخها، ثم تبثها ضريرة لا تبصر إلا وميض اللهب، تحكي ألامها إن مرضت، وبالكاد تستطيع أن توقد النار، وترسم سعادتها برماد بيعها للخبز الذي عادت لمنزلها فارغة منه في أمسها، تتحدث عن بضع مئات ادخرتها لعلها تستطيع الانتقال لمنزل أفضل، تسرد وجع الطلاق وألم الوحدة.
لم تكن تعلم أن ريحان كان ينصت لها ويتأمل عبثية حملها للنقيضين، فأي حزن وأي فرح يستطيع قلب البشري أن يحمله في آن واحد. ريحان يعرف جيدًا أن العفاريت تجيد البحث، لكنه يجيد التخفي، فكان يغوص في الماء تارة ويصعد عالياً في السماء تارة أخرى، ولكنه تعرض للأذى وتكسرت أجنحته الباسقة الطويلة بات من الصعب عليه الطيران عالياً. هل يستطيع أن يعود لفردوس، فمازالت تلك الليلة التي حاول فيها أن يتواصل معها تقبع في تجاويف ذاكرته.
حين تحدث وسط لهيب نار التنور المشتعلة قاطعاً دموعها المنهمرة:
-لا تبك يا فردوس سأقوم بمساعدتك.. لم يستطع إنهاء عرضه حتى سمع صرختها المدوية وهلعها فأطاحت بالعجين وتجمدت أوصالها.
"-بسم الله أعوذ بالله"
-"يا فردوس أقسم لك بكل ما هو مقدس أني جني صالح، لا تقلقي، سأساعدك في كسب رزقك ولا أريد منك شيئاً سوى أن تشاركيني الحديث".
كانت تبكي وهي عاجزة عن الوقوف وقالت متحشرجة الصوت:
" جني، جني! يارباااااه لقد جننت، لقد فقدت صوابي"
-" نعم جني، وأستطيع أن أحكي لك طرفة بعد سمعتها من أحد البشر".
بدأ يحكي لها بعض الطرائف والقصص ليمتص هلعها، وليلة بعد ليلة استأنست وجوده، ورغم أنها لا تستطيع رؤيته إلا أنها كسرت جدران وحدتها، كان ريحان يساعدها في الحصول على وصفات كبار الخبازين وهي تقوم بتنفيذ الوصفات ويومًا بعد يوم ازدادت مبيعاتها، وكانت في آخر النهار لا تتوقف عن السعادة التي تشعر بها، وكان ريحان فرحاً هو الآخر بذلك النجاح.
كان يتغيب دائماً عن قبيلته، وبدأ شباب الجن يشكون في تصرفاته، وذات نهار، تبعه اثنان من الجان ليروا ماذا يفعل وحين شاهداه مع فردوس يتبادلان الضحكات أخبرا شيخ القبيلة، وغاب ريحان عدة أيام عن فردوس، افتقدته كثيرًا لدرجة أنها شعرت أن جزءا من روحها قد تلاشى، كانت إذا سمعت حركة أوصوات هرعت صارخة:
"ريحان، ريحان أهذا أنت؟".
لم يعد ريحان كان يحاكم جراء ما فعل، كان القضاة في محكمة الجن العامة تقضي إما بالسجن المؤبد أو الحرق أو النفي، لكل من يتواصل مع بشري أو يكشف له عن عالمهم، وقبيل إصدار الحكم استطاع أن يهرب ريحان، واستمرت مطاردته ثلاثة أيام دون أن يفلحوا في القبض عليه، فأصدرت القبيلة بعدها وفق قانون الجن أن يُنفى تمامًا ولا يحق له العودة، علم ريحان بذلك وعاد لفردوس، كانت هي الأخرى مريضة، وظلا يتشاركان الوجع، في منفى لا يوجد به سوى غرفة يحيط بها مساحة ترابية صغيرة توسطها تنور وكومة حطب.