لا تفقدوا الكفاءات

 

د. صالح الفهدي

حينَ دُعي أحد المسؤولين إلى اجتماعٍ طاريءٍ لإحدى اللِّجانِ المكلَّفة بإدارةِ شأنٍ من الشؤون، لم يجد فيها أحدًا من الأعضاء السابقين ذوي الخبرة في تجارب سابقة، ووجدَ الأعضاء جميعهم جُددا بما فيهم شخصه، يبحثون عن خيوط البداية لإدارة الأزمة المُحدقة!!

لا شيءَ أصعبَ على وطنٍ أشدَّ ألماً من التخلُّص من أصحابِ الكفاءات بحبرٍ بارد!! ذلك لأنَّها هي أعمدةُ الوطنِ السميكةِ، كما أنَّ صناعة الكفاءات لا تتم بين ليلةٍ وضحاها، وإنما تحتاج إلى عقودٍ من الزمان، وتجاربَ متراكمة، الأمر الذي يعني العودة إلى المربع صفر، والبدءُ من جديدٍ في خوض التجارب، مما يعني ضياع مقدرات الوطنِ، وأعمار الشعوب هدراً..!

يخبرني أحدهم أن مهندساً شاباً من أفضل الكفاءات ليس على مستوى الوطنِ وحسب وإنما على مستوى الوطن العربي، فقد حقق إنجازات لم يحقق غيره حتى أن الكلية في اسكتلندا وضعت صورته في لوحة الشرف الخاصة بها، حينما طلبَ نقله إلى قسمٍ يناسبُ اهتمامه وتخصصه، رفض رئيس الوحدة طلبه، فتقدَّم المهندس باستقالة، وقبلها الرئيس على الفور، يقول محدِّثي: على الفورِ طلبتُ من المهندس أن يسحب استقالته، ورتَّبتُ له لقاءً مع الوزير مبرراً بأنَّ الدولة قد أنفقت عليه أموالاً كثيرة ثم رئيس بعقلية ضيِّقة فيتخلَّى عنه في ومضةٍ عين!!، وعده الوزيرُ بالنقل بعد وقتٍ محدَّد، وهكذا بقي المهندس صاحبُ الكفاءةِ العالية وضمنت الدولة الإستفادة منه ومما أستثمرته فيه من المبالغ الطائلة، قبل أن تخطفه إحدى الشركات الأجنبية التي كادت على وشك توقيع العقدِ معه لتستفيد منه، فيضِّعه وطنه، ويضيِّع معه ما أنفقَ عليه من موارد!!.

ولا شكَّ أن هناك قصصٌ لدى كل من يقرأ هذه المقالة عن كفاءاتٍ قد تم التضحيةُ بها أو إقصائها دونما اعتبار للخسارة التي يتكبَّدها الوطنُ من جرَّاء ذلك الفقد والإقصاء، في حين أن الغربَ يعتني بذوي الكفاءات المتميِّزة، فيستعينُ بمسؤولين سابقين في إدارات سابقة من أجلِ أن يُعادَ تكليفهم لمهامٍ جديدةٍ رغم تقدِّم أعمارهم لأنهم يشكِّلون مواردَ ثمينة لأوطانهم.

أحد أصحاب الكفاءات تم الصرفُ على تدريبه وتأهيله فأصبح الأفضل والأبرز في مجال عمله، ثم فجأة حتى قبل أن يصل إلى سن التقاعد تمت إحالته للتقاعد، فوقعَ هذا الأمر عليه موقع الصدمة، فلم يتحمَّلها فمات!! أما كان أجدر أن يكون صاحب الكفاءة مدرباً للموارد البشرية الجديدة في مجاله، بدل أن يُنفق الوطن الأموال الطائلة لتأهيلهم وتدريبهم وصقل قدراتهم؟!

الخطأ الفادح الذي يُرتكبُ بحقِّ الكفاءات لا يغفرهُ الوطن؛ لأن الكفاءة هي أصلٌ من الأصول العظيمة لأي وطن، ولا يجوز التفريط فيها، ولا التضحية بصاحبها حتى يستفيد منه الآخرون، ومن ثم يمكن أن يُكمل آخر الدورة ذاتها.

ومن المسلَّم به أن لكلِّ موظف أمدٌ محدَّد في عمله وهذا لاجدال فيه، بيد أن أصحاب الكفاءات المتميزة لا يجب أن يخضعوا لنفس القوانين التي يخضع لها عموم الموظفين، ويجب أن يكون لهم مسار آخر حتى يستفيدَ منهم الوطن بنقل خبراتهم إلى أجيالٍ أُخرى.

الإشكالية الثانية تتمثل في أن البعض من المسؤولين في الصفوف الإدارية العُليا هم من يبرزُ في الظاهر في أغلبِ المشاهد التي تُراكمهم بالخبرة لصناعة القرار، ويحجبُون من عداهم من الظهورِ بدلاً عنهم أو حتى مصاحبتهم، وهذا ما يجب، ولذلك إن غابَ عن المشهد تعطَّلت الأعمال فلم يدر أحدٌ ماذا يفعل؟! ولو أن الأعراف أو القوانين الإدارية تحتِّم على كل مسؤول أن يصطحبَ معه من يقوم مقامه في غيابه لما حدث انقطاعٌ في سير العمل، ولا ضياعٌ في آلياته وإجراءاته.

أما الإشكالية الثالثة وهي مؤلمةٌ حقاً، تتعلَّق بعدم استفادة الوطن من أصحاب كفاءات متميِّزة لإدارة شؤونها المختلفة، وإنني والله حينما ألتقى أو أسمع عن صاحبِ كفاءةٍ لم يلتفت إليه أحد أشعرُ بالمرارةِ لذلك التجاهلُ والإعراض، وكم أقول في نفسي لو أنَّ فلاناً من الناس وهو صاحبُ كفاءة فذَّةٍ قد وضعَ في الموقع الفلاني لأسهم في تطويره بما يملك من أفكار، وقدرات وشغف، وحقق خيراً لوطنه ومجتمعه.

خلاصة الكلام.. أن فقدان الكفاءات هي أعظم خسارة يتكبَّدها الوطن، لأنها تتعلَّق بالإنسان الذي هو أصلُ التطور والتقدم والتنمية لأي وطنٍ من الأوطان، وما لم تمكَّن الكفاءات من إدارة شؤون أوطانها فلن تتحرك لها عجلة، ويتأخر الوطن بسبب ذلك في حِراكه النهضوي، وهُنا أقول: إنَّه حين يتعلَّق الأمر بالوطن فلا تجوزُ المحاباةُ ولا المحسوبية في إدارة شؤونه؛ بل تكليف الكفاءات الأفضل، ولا يجوز إبقاءُ من لا يقدِّم للوطن شيئاً من موقعه؛ بل الأجدر أن يستبدل دون تأخير، فالثانية من الوقتِ في عمر الأوطان تعني أعواماً عديدة لأنها تنتقصُ من أعمار أهله، ومن موارده..!

فلا تفقدوا الكفاءات القديرة، واجعلوا لها شأناً عظيماً يرتقي به الوطن، وتوجَّه موارده بفضلها التوجيه الأمثل، ويحقق الوطن بها أهدافه العليا، ومراميه الكريمة.