علي بن سالم كفيتان
لملمتْ الشمس أشعتها الأخيرة ذلك المساء، وعادت الإبل إلى مرابضها، تجمّع الرجال حول النار ومراجل الحليب يمنة ويسرى، والحديث ذو شجون في أرض الله؛ حيث لا سقف غير السماء المحتشدة بالنجوم، ولا فراش إلا أديم الأرض وبقايا الحشائش اليابسة، بعد موسم المطر، وقد هجع الجميع حول الموقد، وأحاديث النساء والأطفال لا زالت تتهادى من الخدر المجاور، وفجأة.. ساد الصمت ونام الجميع ولا صوت يعلو فوق همهمات البومة وصرير الليل، فهما يتناوبان، ويقال إن البومة تجلب النحس! فهي تُرافق النمر، وصوتها يعني أن سيد الغابة في الجوار، فيقوم الراعي ليتفقد المواليد الجدد خوفًا من هجمات غير متوقعة لنمر جائع، لكنه وجد الأمور على ما يرام، وتحسس مصدر الصوت حتى وصل تحت شجر المشط، فتوقفت البومة، بينما ظلت عيونها الملتهبة مغروسة في المحيط المظلم، قذفها بحجارة فطارت وطار معها نحسها.
وفي آخر الليل ولدت الأم صبيًا، فسمع الأب الذي لم ينم بكاء ابنه من على التلة القريبة، وأخذ جذوة من النار الهامدة وذهب ناحية البكاء وعندما اقترب، نهرته المرأة بصوت حازم: لا تقترب.. قال لها: ربما تحتاجين هذا اللهب لتبصري حواليك. قالت له: اتركه عندك وعد للمخيم.
جمع حوله بضع عيدان يابسة وأوقد النار حولها، وجر رجليه عائدًا، وفي كل لحظة يقف ويلتفت صوبها، وفي منتصف الطريق بين المخيم ومكان الميلاد جلس وعينه على الصوت القادم من خلف النَّار التي أوقدها، رأى ظلها الملائكي يتهادى مع سكون الليل إلى قربها، فانتفض من جلسته وهبَّ مسرعًا إلى ناقته المسماة (طيب) حلبها على عجل، وعاد أدراجه للقمة، وعندما اقترب من النار والمرأة والطفل وقف. وقالت له: تعال.. فأسرع إليها متلهفًا وهنأها بالسلامة. فقالت له: لقد رزقنا الله مولودًا جميلًا. فتهللت أساريره واقترب ليرى وجهه يلمع على النار، لقد أرضعته وتوقف عن البكاء للتو، وأعطاها إناء الحليب، وقال لها بفخر: إنه حليب (طيب) شربت منه حتى ارتوت وتنفست الصعداء، وعادت وهي تتبعه للمخيم، بينما هو يحمل ناره ويقف في كل لحظة ليلتفت إليها فتقول له من خلفه: تقدم يا رجل أنا بخير.
انسل إلى جانب الموقد، وهي توجهت لخدرها، وخلدا إلى النوم، وقام الجميع، بينما هو ظل هامدًا حتى أيقظه أحدهم لصلاة الفجر، وجلس ثم فرك عينيه، وقال في نفسه هل كنت أحلم؟! أم أن الأمر واقع.. توضأ وصلى مع جموع الرعاة، وهو متحفز للذهاب إلى خدر زوجته ليتأكد مما دار بالليل، وما كاد يسلِّم الإمام حتى هرع من مكانه، وانطلق إلى الخدر، فوجدها نائمة وبقية الأطفال يغطون في سبات عميق ناداها هامسًا: يا سلمى.. يا سلمى، قامت مُتثاقلة، وعندما جلست، سمع صوتًا جميلًا يتهادى من بين كومة الثياب المجاورة، إنِّه الطفل أخذته بلطف إلى حضنها وأرضعته بينما هو يقف مذهولاً.
قالت له: ما بك؟ ردَّ عليها: إنني خفت أن يكون كل ما رأيته بالأمس حلما، الحمد لله أنه حقيقةـ ضحكت منه، وقالت له: أحضر لي بقية حليب الناقة وشيئًا من الماء.. أحس بالعطش وما كادت تنطق حتى جلب لها ما طلبت، وظل جالسًا بجوارهما، ولديه فضول كبير لرؤية الطفل عن كثب.
عاد لمخيم الرعاة رافعًا هامته وفي وسط الطريق غيّر مساره لمبرك الإبل، وتوجه مسرعًا إلى إحدى النوق، فنحرها على عجل، فسمع صوت نحيب الناقة ونفرير الإبل، في كل اتجاه عندها تسابق الرجال المتحلقون حول النار إلى المكان، فهذه الحركة لا تحدث إلا إذا دخل النمر في القطيع، وفعلًا لقد أجهز الرجل على الناقة وباتت دماؤها تسيل على الأرض، بينما وجهه وثيابه ملطخة بقطرات الدم الأحمر القاني، عندها وقف الجميع وقالوا: "هداك الله يا رجل ما الذي دهاك لنحر خير إبلك؟".
أتت أمه وهي تتكئ على عصاها وتمشي بتؤدة، فقالت بصوتها المتهدج من الفرح "نجف عيديد بر فوطمة"؛ أي ابعد الله عنك الهم والغم والتعب بن فاطمة، وهي بذلك تبارك له بحفيدها الجديد، وتوافقه على فعلته تلك، أي ذبح الناقة، فلطالما كان الكل يخاف لمس شعرة من الإبل، لكن هذا المرة لم تخفِ السيدة الأولى فرحتها بقدوم حفيدها، ولم تلقِ بالًا لنحر الناقة، وعادت بمشيتها البطيئة، حتى وصلت عند مدخل المخيم الذي فيه الأم، فنادت بصوت مسموع: أسلمه... أسلمه، هنا أجابتها الأم ورحبت بها بلهجة أهل الريف "توب ذحي بخولوتي" أي: يا حي وسهلا بخالتي.
دخلت برجلها اليمين وهي تسمي الله وتصلي وتسلم على النبي، وجلست إلى جوار الأم التي أعطتها المولود فنظرت إليه نظرة متفحصة ثم قالت له: "حفظك الله بر سلمه".