بين الأستاذين.. سميرة محمد أمين

 

 

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

لا يُمكن أن تكتب عن الأستاذة سميرة أمين دون أن تُعرِّج على سيرة الأستاذ المُترجم والدها المعروف.. وقد عرفتها ذات مهارات عُليا في التفكير والتخطيط تتمتع بمهارات ذهنية ولذا تتصدر الاجتماعات بالمُقترحات التي كثيرا ما تكون جديرة بالاهتمام والأخذ بها، كيف لا والطفل يتكون حسب ما أنشأه أبواه، وكيف لا وهي ابنة الأستاذ محمد أمين عبدالله البستكي رائد الترجمة في عُمان والخليج العربي.

يقول عنه د. عبدالله المدني في مجلة البيان "على الرغم من دوره المُؤثّر على صعيدين خطيرين، أولهما: قيامه في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1932 -1970) بعملية تنظيم إيفاد بعض من أبناء وطنه إلى الخارج من أجل العلم، وثانيهما قيامه في عهد السلطان قابوس بن سعيد بإثراء المكتبة العُمانية والخليجية بترجمات مُتقنة للعديد من المُؤلفات التاريخية إلى اللغة الإنجليزية التي كان يجيدها إجادة تامة، لاسيما تلك المؤلفات الخاصة بتاريخ عُمان".

نشأ الأستاذ أمين في عُمان وتحديدا في مسقط، ودرس الدين والقرآن واللغة العربية وفق التعليم القديم، لكن هذا التعليم القليل لم يروِ ظمأه الثقافي الذي كان يطمح ويتطلع به للبعيد فمضى يعب ويقرأ كل ما يقع في يده، وكان الأستاذ مفتونًا بالقراءة والعلم والتعلم، الأمر الذي جعله يجيد اللغة العربية ويتقنها كما أجاد اللغة الإنجليزية، خاصة بعد أن مارسها أثناء عمله في القنصلية البريطانية بمسقط التي تركها بعد مشادة بينه وبين القنصل البريطاني.

فهاجر الأستاذ هو وثلة من العُمانيين إلى باكستان التي كانت مزدهرة آنذاك علميًا وثقافيًا ومستقرة اجتماعيًا، وهناك عمِل في وزارة الإعلام الباكستانية، بإذاعة القسم العربي مُترجمًا من الإنجليزية إلى العربية، وهناك أنجب طفلتيه سميرة وزكية. ونظرًا لكون والدهما حريصًا على أن يكتسب الأطفال اللغة العربية السليمة تحدثًا وكتابة، انتقل بالأسرة إلى البحرين وعاشتْ سميرة هناك من سن 3 إلى 4 سنوات، ثم انتقلت هي وأسرتها إلى الكويت؛ حيث عاشت الأستاذة سميرة من عمر أربع سنوات حتى الثاني الابتدائي بالكويت، وهناك وُلد أخوها جبير. بعدها انتقلت الأسرة إلى القاهرة وأنجبت الأسرة هناك البنت الثالثة تهاني، وعاشوا في القاهرة من 1956م إلى سنة 1970م، تقول سميرة: "وما أدراك ما القاهرة في ذلك الوقت، وما كانت تعج به من ضروب الثقافة والفكر والإبداع والفنون تكاملتْ، فأفرزت ذلك الجمال والنظافة وبرزت فيها قومية عبدالناصر والعروبة، وتجمعت هناك كثير من الجاليات العربية المُثقفة".

بعدها رجعت سميرة لزيارة عُمان عام 1970م، ثم استقرت في أبوظبي كمرحلة انتقالية؛ حيث عملت سميرة هناك مُعلمة لمادة الاجتماعيات والاقتصاد من 1970 إلى 1972م، وبعد النداء التاريخي للسُّلطان قابوس بن سعيد- رحمه الله- تزوجت سميرة وعادت مع زوجها إلى عُمان عام 1972، ولحقت بها الأسرة، فعادت من القاهرة إلى مسقط؛ حيث عُين الأستاذ محمد أمين البستكي في وزارة الإعلام العُمانية عام 1973م، وتمَّت إعارته بعد ذلك من وزارة الإعلام لوزارة التراث، وقامت حركة الترجمة الواسعة التي أمدت المكتبة العمانية بالعديد من الكتب القيمة المترجمة.

ولأنَّ سميرة قضت عامين تعمل في أبوظبي فقد اكتسبت خبرة في الإدارة والتدريس؛ حيث قامت بتدريس مادة الاجتماعيات ومادة الاقتصاد، ثم عملت إخصائية اجتماعية ومساعدة في أعمال إدارة المدرسة. وعند عودتها لعُمان أصبحت أول مديرة مدرسة آنذاك.. وتحدثنا سميرة عن ذكرياتها الجميلة في مدرسة أسماء أنها كانت تعمل بلا طاولة، وكانت أثناء حملها بطفلها تضع الأوراق فوق رجلها لتتمكن من الكتابة جيدًا. وتكمل مسترجعة مزيج من الذكريات الحلوة المختلطة بمرارة صعوبة الوضع في البلاد، فتقول: "ومن الذكريات التي لا تمحى من الذاكرة ركوب سيارة اللاندروفر القديمة إلى مكان قريب من وادي الميح حتى نستلم الكتب المدرسية، وكانت الرحلة في اللاندروفر قطعة من العذاب- لكنها تحلو من أجل عيني الحلوة عُمان- حيث كانت السيارة تتأرجح كالمراجيح التالفة المُفككة، يمينًا ويسارًا، فوق الدروب الوعرة بالصخور والحجارة والأتربة ومجاري الأودية".

وكان السلطان قابوس- رحمه الله وطيب ثراه- يزور المدرسة بنفسه ليُوجه العاملين فيها ويُفتش على المدارس، وكان كعادته يهتم بالجزئيات الصغيرة قبل الكبيرة، كأنْ يسأل المديرة لماذا الزي المدرسي ألوانه مُختلفة من طالبة إلى أخرى، مع أنَّ الزي المطلوب موحد، وكان سؤاله في محله؛ لأنه كانت هناك بعض الاختلافات الواضحة في اللون البيج الذي ترتديه الطالبات في المرحلة الابتدائية، ويتنوع اللون بين البيج الفاتح والبيج الغامق والبيج المصفر والبيج المائل للبني، فكان الرد: "بسبب اختلاف الموردين جلالتك"، فلم يكن في بداية السبعينيات توجد محلات كثيرة لتوريد الأقمشة، حتى نتمكن من توحيد الزي، وقد زارنا السلطان قابوس 3 مرات في مدرسة أسماء، ثم انتقلتُ إلى إدارة الزهراء للبنات".

ومن 1979 إلى 1987م عملتْ سميرة أمين مديرة الأنشطة التربوية بوزارة التربية والتعليم، وهناك برز اسمها؛ حيث شكلتْ الأنشطة مدار اهتمامها في وزارة التربية، ومنها وجدتْ نفسها مسؤولة عن النشاط الرياضي والكشفي والإرشادي وغيرها من الأنشطة المدرسية، وتولت الإشراف على المهرجانات الطلابية،. وفي هذه المرحلة تزاملتُ أنا معها للعمل في المهرجانات الطلابية، في البدء عملتُ أنا والأستاذ إبراهيم شعراوي كمتدربة لكتابة أشعار المهرجانات ثم تفردتُ بكتاباتي الشعرية، وتفردت هي بالإشراف العام على المهرجانات ككل، كما تزاملتُ معها في جمعية المرشدات العُمانية أنا كمفوضة علاقات دولية ومسؤولة التدريب، وهي كرئيسة لجمعية المرشدات التي ضمت في مجلس إدارتها كوكبة من العُمانيات البارزات في العمل التطوعي آنذاك.

ثم عملت الأستاذة مدير عام التعليم بوزارة التربية والتعليم من عام 1987 إلى عام 1997، وفي العام 1997/ 1998 شغلتْ سميرة منصب مدير عام التخطيط والمعلومات التربوية بوزارة التربية والتعليم، ثم عملت مستشارة وزير التربية والتعليم للتقويم التربوي من الفترة 1998 إلى 2011، وخلال هذه الفترة رشحت كعضوة في مجلس الدولة، وفي السنوات الأخيرة من عضويتها في المجلس تزاملتُ أنا أيضاً معها هناك.

وعملت الأستاذة سميرة أمين من خلال لجان المجلس عضوة الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لدول المجلس   أبريل 2004 إلى 2012، ثم عضوة البرلمان العربي الانتقالي من فبراير 2008 حتى 2011، وشاركت الأستاذة في العديد من الدورات والحلقات الدراسية والمؤتمرات والملتقيات الخاصة.

ولأنهن ضمن بني هذا الوطن وقام على أكتافهن بصدق وتفان وإخلاص لم يكنَّ ينتظرن التصفيق، فتكرم عليهن الأب العظيم لهذا الوطن بعدة تكريمات ونالت سميرة أمين: وسام الاستحقاق من السُّلطان قابوس بن سعيد عام 1983، ثم حصلت على وسام الخدمة المدنية المُمتازة من السلطان قابوس بن سعيد المعظم، وعلى العديد من الشهادات والتكريمات علميا ومناشطا.

ختامًا.. لا يمكننا أن نحصي ما قام به جيل الرواد والرائدات في بناء المجتمع العماني وتنميته إلى أن سلموا الراية للأجيال الصاعدة حاليًا، هذا الوطن الذي كان حلمًا عذبًا في قلوب الآباء قبل قلوبهن، هذا الوطن الذي كم حجت إليه أرواح العمانيين وغازل بطيفه وذكرياته رؤاهن متشربات حب الوطن وخدمته من رجال عظام قاموا بتغذية أولادهم بالعلم والثقافة والوطنية، رجال ونساء حفظوا عُمان في الغياب والحضور، فتعتق حبها وتوهجت رؤاها في الوجدان والصدور ونقشوها وشماً  لا يخبو على مدى الأزمان.

تعليق عبر الفيس بوك