هبَّة عُمان

 

د. خالد بن حمد الغيلاني

khalid.algailni@gmail.com

@khaledalgailani

 

في ليلة ليست ككل الليالي، وساعات ليست باليسيرة والهيّنة، شاهين يقترب من اليابسة، والجهات المختصة تتابعه- كل حسب اختصاصه- متابعة دقيقة، تحديثات الأرصاد مستمرة، من أين يدخل؟، من صور لا، من قريات لا، من مسقط لا، ثم ربما من صحار، أخيرا حسم شاهين أمره وقرّر أن يكون دخوله بين السويق وبين الخابورة، ولايتان وادعتان جميلتان بقدر جمال قلوب ساكنيها.

نجد في الولايات التي خبرت هذا النوع من الحالات المدارية القلوب وجلة، والأنفس على أهلنا هناك خائفة، إلا أهل الولايات التي أصبحت وجهة مباشرة لشاهين، لم يخبروا مثل هذا الأمر ولم يعتادوا عليه، كان في ظن المتشائم منهم أنها أمطار غزيرة، ورياح شديدة، كالتي تأتي دوما في المواسم المعلومة.

لا زال الجو هادئًا كما هو معتاد ولا زالت الأمطار خفيفة والهواء نسمات وادعة، وها هي الشمس تأذن برحيلها رويدًا رويدًا، وشاهين كذلك يقترب رويدًا رويدًا، الشمس تغيب وشاهين يزداد قربًا، وكلما اقترب زادت الريح عصفًا، واشتد المطر هطولا، أظلمت السماء، وتفجرت الأرض، والناس في هول من مشهد غير معتاد وغير مألوف وغير متوقع، هم الآن في قلب هذا الوافد شديد الوقع على القلوب والأرواح.

ليلة لا يمكن أن ينساها أهل الباطنة وخاصة أهل السويق والخابورة، تعالت فيها الصيحات، والاستغاثات، والتهليلات، والتكبيرات، كان الهم الأكبر سلامة الأرواح، زار الماء كل بيت، وحشر الناس على الأسطح، والكل يرجو السلامة له ولأحبابه.

أصبح الصبح وانقشع السحاب، وفاق الناس من الصدمة على واقع شديد، غير متوقع، دمار غير مألوف، وخسائر فادحة، فالماء أحاط بكل شيء، أخذ كل شيء، فلا الجار يصل جاره، ولا القريب يطمئن على قريبه، حالة من الذهول والصدمة أصابت الناس، ومع ذلك فهم المؤمنون بقضاء الله تعالى وأمره النافذ في عباده، تلهج الألسن بسلامة الأرواح، وتحمد الله تعالى على جميل لطفه بالعباد، والكل يردد يوم يسلم العود المال مردود.

قبل أن ينتصف نهار ذلك اليوم، أدركت عُمان كلها أن الباطنة الحبيبة الغالية، أرض البشاشة والترحاب، مصيف الكثير من أبناء عُمان، أرض العطاء الدائم، سلة الغذاء العُماني، قد أحدثت الحالة المدارية فيها ما لم يكن متوقعا وما لم يكن مألوفا فذاكرة الناس هناك لم تعهد مثل هذا.

أدركت عُمان كلها أن الحدث عظيم والأمر خطير والواقع مرير، ولأننا جسد واحد، وروح واحدة، ولأننا أهل عُمان على الحلو والمر معا، ولأننا أهل عُمان لا نبيت وأخ لنا يشتكي ألما، وهذا الألم موجع بل وغائر، فزعت عُمان كلها شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، جوفها وظواهرها، هبّت عُمان هبة أشد من شاهين سرعة ووقعا، ولكنها هبة حنو ومودة، ورحمة وتواد، هبة الأهل للأهل.

وسرعان ما بدأت نفوس الناس في الباطنة تطيب، وأرواحهم تهدأ، ومشاعرهم تستكين، وبدأ الرضا والاطمئنان يسري بين الحنايا والجوارح. جاءت عُمان بقضها وقضيضها، جاءت عُمان بالرجال والنساء، الكبار والصغار. ولسان حالهم يقول: تجوع الباطنة وتتألم ونحن في هناء وسرور. لا والله لا كنا ولا عشنا، والباطنة هذا حالها، لا والله لا نقبل أن تشوك أهلها شوكة ونحن فينا عرق ينبض.

فانحدر أبناء عُمان أهل الشيمة والوفاء، انحدروا سيلا من المودة والبذل والعطاء، فلا المسافات موانع، ولا الظروف الاقتصادية حوائل، وإنما ترخص الأنفس، ويرخص الحال والمال لأهل الباطنة. فأهلها لم يتخلوا يوما عن واجب، ولم يتأخروا يوما عن هبة عُمانية احتاجها جزء من هذا الوطن.

تدافع الناس إلى الباطنة تدافع الحجيج إلى يوم عرفة، تدافعوا ونور العمل والعطاء يعلوا محّيا كل واحد منهم، يحملون معاول البناء، وقلوب المحبة والفداء. متدثرون بدثار العزة والكرامة، ومتسلحون بسلاح الولاء والانتماء لهذا الوطن الغالي، يدك بيد أخيك، وتسأله من أين أنت؟ ومع تسارع الردود تكتشف أن عُمان كلها حاضرة، وفي المكان الواحد تجد الحضور من كل الولايات. فلا استثناء اليوم فالألم عُماني والطبيب عُماني والدواء عُماني والشفاء عاجل بإذن الله تعالى.

ومع هذه الهبة العُمانية الأهلية، لم تكن الهبة الرسمية من مختلف مؤسسات الدولة عسكرية وأمنية وحكومية أقل حماسًا وحضورًا وجهدًا وبذلًا، فقد سطروا خلالها ملحمة وطنية تدعو للفخر والاعتزاز، وتبعث رسائل واضحة أن عُمان بكل مكوناتها ومؤسساتها يد واحدة وجسد واحد وروح واحدة.

عُمان كلها في كل بيت لأهلنا هناك في الباطنة، وحينما أقول عُمان كلها فإني أقصد ذلك وأعنيه، فمولانا السلطان متقدم للصفوف بدعمه ومساندته ومتابعته وتوجيهاته، رجال الدولة من مدنيين وعسكريين هناك في الباطنة، القطاع الخاص الغيور هناك في الباطنة، الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع هناك في الباطنة، المحافظات كلها في الباطنة، الولايات كلها والمدن والقرى في الباطنة، الجبال والبحار كلها في الباطنة، عُمان كلها في الباطنة.

إن الحقيقة التي لا اختلاف عليها، ولا مجال للنقاش فيها أن هذا الوطن الغالي عزيز بسلطانه، عظيم بأبنائه، ثابت ثبات جباله، راسخ رسوخ حضارته وأمجاده، فإن سطّر الأوائل ملاحم بطولات في ميادين الفداء والشرف والدفاع عن الأرض والمكتسب، فاليوم بني وطني يسطرون ملاحم تدعونا للفخر والاعتزاز في ميدان البناء للوطن، وحماية المكتسبات، وشدّ بعضه بعضا. ووطن كهذا لا خوف عليه من تقلبات الدهر، ونوائب الأيام، وصدق من قال: عُمان بسلطانها وشعبها عظيمة، فلك أيها العُماني أن تكون فخورا شامخا تطاول السماء أنك عُماني.