د. سعيدة بنت خاطر الفارسية
احتفالات يوم المرأة العُمانية جاءت بزخمها عبر المؤسسات المختلفة فهذه غرفة التجارة والصناعة تحتفل بشكل أنيق يشبه من نسَّق لهذا الاحتفال .. وكان الهدف الواضح توعية المرأة بدورها الفاعل وعرض نماذج مشرقة مشرفة وناجحة للمرأة العمانية.. كان حفلا وعيدا وفرحة تستحقها المرأة، فعلاً هذا اليوم هدية من أب حنون لبناته... وشكرا للمانح وتهنئة للممنوح.
لا شك أن المرأة مخلوق مدهش عندما يتسم بالوعي وبروح الأنوثة الشفيفة وسخاء الأمومة المعطاء.
يأتي يوم المرأة - وأنا أرى أنَّه عيدها- يأتي ونجوم نسائية رائعة قد أفلتْ مؤخرا من سموات فرحنا: مثل يسرا الفارسي ومثل شيرين الغماري، والحديث عن يسرا.. يسري في سواقي القلب فيسقي بساتينا من الجمال والخضرة والاشتياق كل حين، والحديث عن شيرين قد حان وقته .. فمن هي هذه النجمة؟ أعتقد من الصعب أن أُعرِّفَ بمن هي مثلها شيرين الغماري رائدة من رائدات هذا الوطن ونموذج فريد من سيداته صارعتْ المرض بعناد وبإصرار شديد هو سمة شخصيتها البارزة، صارعته وكأنها كانت تُريد أن ترى قطوف حصاد هذا البلد دانية وقطوف ما غرسته زاهيا، ووطننا يختال في زهوة الأربعين .. لقد ناورتْ المرض حتى ترى مواسم الحصاد لكن المرض الشرس لم يُبق منها بقية وانتصر عليها أخيراً ...واستسلمت شيرين وأسلمت الروح لخالقها.
وشيرين هي أخت لشقيقات رائعات شاركن بجدية في إخضرار حقول النهضة اليانعة، ذاكرتي بشيرين تمتدُّ منذ عودتي للوطن في النصف الأخير من السبعينيات .. عندما عدتُ وجدتُ كثيرًا من النساء الرائعات قد سبقنني وأسسن قاعدة راسخة للعمل النسائي الحكومي والأهلي كانت شيرين إحدى هؤلاء النسوة المائزات المتميزات خَلقا وخُلقا، فقد كانت أذرعها تمتد لتناوش في جبهات كثيرة فهي فنانة تشكيلية وهي مُعلمة وهي مُديرة مدرسة، وهي في جمعية المرأة وهي قائدة في جمعية المرشدات ... جمعتني بها السبل ففي النشاط الإرشادي كانت شيرين رغم أناقتها الشديدة تسابق يدها يدي في حفر الأرض ودق وتد الخيام وتعليم الفتيات تسييج المعسكر وطهي الطعام على الموقد الحجري وجمع الحطب و .. و .. و ... على حين كانت غيرها من القائدات يجلسن على الكراسي تحت الظلال حرصاً على بشرتهن أو هندامهن من الاتساخ بالتراب ...
كانت قامتها الطويلة الممشوقة لا تنحني إلا لمن تحب وهي تحب التفاني في العمل وتحب هذا الوطن .
ذات يوم كانت تنحني لتدق بالمطرقة الضخمة وتد الخيمة فدقت أصبعها، ترمي بالمطرقة الثقيلة وتصرخ ماهذا الذي نعمله في أنفسنا.. أضحك منها وأقول: (وما يدري بنات الحضر المرفهات بنصب الخيام ودق الأوتاد )...اغتاظتْ مني وعادتْ للعمل، بعد قليل صرختُ أنا وقد كسر أحد أظافري من اللحم وأنا أعقد الحبال المتينة وأشدها على مسامير بوابة سياج المعسكر، ضحكتْ هي وقالت (والله هذه عيوني كلما رأيتُ أظافرك الطويلة المتناسقة أتذكر أظافري المبططة ... لكن ما شاء الله واضح شطارة البدو عليك...) ضحكنا معاً وحلقتْ الأرواح في سماوات ملونة من الحب والصفاء.
شيرين التي كان موتها مظاهرة للوفود المعزية أغلقت الشارع المؤدي إلى بيتها، ودعها العشرات من طلبتها إلى المقبرة ففي العاصمة من الندرة أن تجد بيتاً لا تضم جدرانه شهادة تعليمية فيها توقيع شيرين الغماري فمن نجية بنت عامر إلى هند بنت عتبة إلى الزهراء إلى دوحة الأدب إلى مدرسة القرم النموذجية الخاصة، شيرين كانت خير مربية في تسريب علم الجمال والفن والذوق والتربية والعلم، كانت شديدة، شدة الغيرة والاهتمام بطلابها...
في عزائها تجد الأم والبنت، وأحيانا تجد الأم والبنت والحفيدة قد تعلمن وتخرجن على يديها...
إنها مربية كبيرة بحجم عطائها غير المحدود، وحضورها الإنساني، عندما أراها بعد سنوات أوشهور من الانقطاع أحضنها وتحضنني بكل جارحة من الجوارح، فالحبُّ الذي يتنزه عن الأغراض هو نور رباني الفيض .
شجرتها الشريشة الضخمة التي تفرش الحُبَّ قبل الظلِّ في الشارع يستظل بها الطير والعمال والسيارات من حرِّ الهجيرة اللافح ... كانت سيارتي لاتجد مكاناً تربض فيه آمنة مطمئنة وأنا أزور صديقة أخرى هناك في الشارع نفسه، وتتناصف سيارتي الموقف مع العمال النائمين باطمئنان وسكينة، كل شيء يتبع أصله وأصل هذه الشجرة الطيب من تلك المرأة الطيبة التي زرعتها وتعهدتها بالرعاية، حتى شمختْ عاليا شموخ صاحبتها، وظلَّلتْ كل محتاج كما ربت صاحبتها الأجيال وظللتهم برعايتها ... بوابة منزلها دائماً مشرَّعة كقلبها، ذات يوم سألت عنها فقيل لي موجودة في منزلها وهي بخير ... دخلتُ من البوابة وضربتُ الجرس بعد خروجي قلت:( زهورك ونباتاتك المغرية هذه والتي تصطف وتزدحم بامتداد السور تغري بالسرقة، وفي يوم من الأيام سأسرق منها كذا أصيص إن لم تتعودي قفل هذه البوابة ... ابتسمتْ قائلة : ( لك أنت ِ مسموح كل شيء حتى أنا ياليت تسرقيني ...)
في شهورها الأخيرة قبل الوفاة كلما أردتُ أن أراها أسأل كيف هي؟ يأتي الرد حالتها تسوء أعلل النفس أو أضحك عليها، إذن سأذهب الآن وسأراها عندما تتشافى قليلاً ولم أكن أقصد ما أقوله، فأنا أعرف أنها ستودعنا فجأة ولن أراها لأنني كنتُ لا أستطيع أن أراها وقد أضعفها المرض وهدَّها وحال بها الحال، فقد تعودتُ أن أراها حتى في أوج المرض شامخة كنخلة واثقة كملكة، مبتسمة كملاك لطف، رغم شراسة المرض الذي يفتك برقتها ... المرض الذي كانت تصارعه بالإصرار والعمل والسفر للخارج لمتابعة العلاج، شيرين التي أعطت حتى الرمق الأخير، للأسف لم تمنحها وزارة الصحة ابتعاثاً للخارج لعلاج مرضها الخبيث، ولم يسأل أحد من المسؤولين عنها رغم علم الجميع بتدهور حالتها الصحية، وغلاء العلاج في الخارج على نفقتها الخاصة، هذه المرأة التي حفرتْ هذه الأرض لتزهر لم يُساعدها أحد في يباب صحتها والقحط الذي يهدد بستان عمرها، إن يوماً كهذا / يوم المرأة العُمانية هو للاحتفال بشيرين وأمثالها من الشموع التي أنارتْ وأنارتْ وأنارتْ حتى احترقت في صمت، والجميع في منأى عنها، إن أبسط حق من حقوق شيرين أن تهتم الدولة بردِّ الجميل لهذه المعطاءة ولأمثالها من الأبناء الأبرار ... لكن لم يحدث بل أن التجاهل كان قاسيا ... فشيرين لم تكرم في السنوات الأخيرة لا من وزارة التربية والتعليم التي قضت عمرها فيها ولا من جمعية المرشدات ولا من الجهات التي تحتفي وتهتم بالمرأة، لقد تجاهلناها كما تجاهلنا غيرها من الذين قام هذا الوطن على أكتافهم من المُخلصين، ولم نكافئ إلا من له حظٌ عظيم ...أو حظوة في التقارير الملوثة ... وشيرين ليست منهم، إنها لاتعرف أن تُداهن وتنافق وتخضع، بل لا تعرف أن تسكتْ على خطأ، ولهذا كان نصيبها الإهمال وهي ما زالتْ على قيد الحياة، ولم يذكر اسمها حتى في المحافل التي يجب أن تذكرها .فإن كنَّا قد اشتركنا مع المرض في سلب راحة شيرين بعدم الاهتمام بها وهي حيَّة، وأنا أدرى الناس بمعاناتها النفسية قبل الجسدية ... فلا أقل من تكريمها الآن ونحن نحتفل بيوم المرأة، ومن أحق من شيرين وزميلاتها بالتكريم، اللآئي مهَّدن حتى لي أنا ودفعتي ومن جاء بعدي الحياة على أرض هذا الوطن، وإن كان الأوان قد فات للتذكير... فإنني أرجو من معالي الدكتورة وزيرة التنمية وهي امرأة أثق بصدق توجهها وقدراتها، وهي التي تمثل من خلال منصبها الإداري الاحتفاء بالمرأة والاهتمام بقضاياها .. أرجو من معاليها أن يكون لرائدات عُمان خاصة المنسيات منهن نصيب كبير في التكريم المعنوي وهن جديرات بكل تكريم، وأن يكتب سجل ما قمن به، إنهن ذلك الجيل الذي كان يعمل لا يُريد إلا وجه الله خالصاً ونهضة هذا الوطن، رغم انعدام الحوافز والمكافآت، وإن وجدتْ فلم يسعين إليها، لأنهن يسعين إلى مجد وسؤدد وبناء ذاكرة عظيمة لوطن عظيم، إنِّهن ذاكرة هذا الوطن ولن يخلد وطن بلا ذاكرة.