"شاهين".. وتساؤلاته!

 

د. عبدالله باحجاج

هناك مجموعة أسئلة تسابق الزمن، ويستوجب طرحها الآن، بهدف تصويب التفكير نحو مسارات مُحددة تأخذ صفتين مستعجلتين؛ إحداهما آنية، والأخرى مستقبلية، وتشتركان في سرعة التعاطي معهما من الآن، وسيكون لي معها تعقيبات لتوضيح الخلفيات والإشكاليات، بهدف إيصال رسائل التساؤلات إلى صناع القرار بكل وضوح وشفافية، مع الأخذ بعين الاعتبار مآسي وأضرار المواطنين في محافظتي شمال وجنوب الباطنة أولًا، ومستقبل إدارتنا المثالية للأزمات ثانيًا.

وأبرز هذه التساؤلات كما يلي:

ما مستقبل الديناميات الاجتماعية المحلية بعد ملامحها الوطنية التي ما زالت قائمة حتى الآن؟ وهي ديناميات تعكس قوة المجتمع العماني في مرحلتي كورونا وتأسيس عصر الضرائب، وهذه القوة تتمدد أفقيًا، وهي ناعمة، وتؤسس شراكات تضامنية وتكافلية بين ديناميات كل ولاية من ولايات البلاد، وتظهر أكثر تأثيرًا، وتعزز قوة الدولة التقليدية، وبالتالي، فإنَّ هذه القوة، ينبغي أن تنسجم رأسيًا كذلك، وهذا لن يتأتى إلا إذا تحولت هذه القوة إلى قوة قانونية ضمن مأسسة الدولة المدنية.

ومفاصل القوة الاجتماعية تبرز في جيوش التطوع التي تشكلت في كل ولايات البلاد بصورة تلقائية، وبعيدًا عن توجهات المؤسسات الحكومية، وأغلبها من فئة الشباب، ويكفي دلالة، وصول جيش من المتطوعين يبلغ قوامه أكثر من 15 ألف متطوع لمحافظتي الباطنة، جاءوا للمساعدة الميدانية العاجلة لتنظيف المنازل المتضررة، بينما ظلت في الولايات الأعداد الكبيرة مستنفرة لتجميع المساعدات المالية والمادية، وما شكّله هذا الجيش من حالة ازدحام كبير، وما كشفه من نقص المهارات، كل ذلك يُعزز المطالبة بالإطار التنظيمي الصحيح لهذه القوة، وسن تشريعات وقوانين لتنظم العمل التطوعي، تحدد الحقوق والواجبات، وتكسب المتطوعين مهارات أساسية في ضوء ما كشفته تجربة مواجهة تداعيات إعصار شاهين من دروس واستشرافات أخرى.

كما يُمكن أن تكون القوة الاجتماعية متعددة الاستخدامات، كقوة تدعم أجندة المؤسسات الحكومية المختلفة، وتعضد قوة الدولة الخشنة، وتحقق أهدافها، وقد يكون لها الأولوية في حالات مستقبلية كثيرة، خاصة عندما يتم تحييد القوة الخشنة للدول من حسم القضايا، وهنا تفتح القوة الاجتماعية- وفق نموذج نفرة 15 ألف متطوع إلى الباطنة- الآفاق السياسية للقوة الاجتماعية في الوقت الراهن في ظل الظروف المحلية والإقليمية القائمة.

هل تمَّ استدعاء الكفاءات وأصحاب الخبرات التي تمَّ تأهليها لقيادة وإدارة الأزمات والكوارث، وأُحيلت للتقاعد؟ أعرفُ إحدى هذه الكفاءات العالية المستوى، تطوعت من تلقاء نفسها، وقادت 12 قطاعًا لمواجهة تداعيات شاهين، ولدينا كفاءات وخبرات تمتلك العلم والخبرات منذ عام 2007 عندما تعرضت بلادنا لأقوى إعصار؛ "جونو" الذي وصلت درجته إلى الدرجة الخامسة مُخلفًا خسائر بشرية ومادية. كما تملك البلاد، خارطة استراتيجية لمواجهة كبرى الكوارث كالزلزال والحرائق الكبيرة والأعاصير- لا قدر الله- جاهزة ومفصلة لكل ولاية من ولايات البلاد، لإدارة الأزمات أثناء وقوعها وبعدها، فكيف يستفاد منها في الأزمات والكوارث بعد تفريغ مؤسسات الدولة من الكفاءات والخبرات؟ وبالتالي: ما مدى تأثر مثاليتنا في إدارة الأزمات بتقاعد الكفاءات والخبرات؟ مع العلم بأن بلادنا قد وفّرت كل الإمكانيات المادية والتقنية واللوجستية، وهي تحتاج للخبرات التراكمية وأصحاب العلم بها، وهذه أسباب كانت تحتم استدعاء الخبرات والكفاءات التي أحيلت للتقاعد في كل القطاعات دون استثناء، فنموذج صاحبنا في قيادته الكمية والنوعية القطاعية، أكبر استدلال نقدمه على أهمية الاستفادة منها.

وقد تواصلتُ مع صاحب هذه الخبرة العمانية، وطرحت تساؤلًا عن رؤيته للحل الذي يجنبنا الإشكاليات القديمة والجديدة، فما كان منه إلا أن قدم اقتراحًا يدعو فيه إلى تشكيل "لجنة عسكرية مدنية مشتركة"، تشترك فيها المؤسسات والهيئات الحكومية العملياتية والقيادية والإدارية والتموينية، وتضم أولئك المتخصصين العمانيين الذين درسوا نظام إدارة أكبر الأزمات والكوارث، موضحًا أنه ينبغي أن يكون للجنة غرفة عمليات مُشتركة، مجهزة بكافة الوسائل المساعدة لإدارة الأزمة والسيطرة على الخسائر البشرية والمادية في الرقعة الجغرافية التي تستهدفها الأزمة أو الكارثة، ويكون على طاولة عملياتها خارطة الرقعة الجغرافية والديموغرافية والطرق والمنافذ البرية/ البحرية... إلخ. ويشمل اقتراحه كذلك، أن تتفرع عن هذه اللجنة، غرف مساعدة ومساندة مثال: الموارد البشرية والمعدات المتنوعة من طائرات وسفن برمائية؛ بما فيها الدراجات النارية والبحرية (سي سكوتر)، توازيها غرفة اتصالات متكاملة للتنسيق والمتابعة الميدانية.

إنها رؤية نافذة ومثالية، ويشبهها أسوة بغرفة العمليات التي أدارت عمليات الجهد المشترك و"السيف السريع 3" بقائد ومساعدين عسكريين لديهم سلطة اتخاذ القرار المؤطر للحالة الاستثنائية، وهذه رؤية يستخلصها من إشكاليات ميدانية أثناء إعصار شاهين.

هل المنازل المتضررة بُنيت فوق تربة صالحة للبناء؟ فالكثير ممن تواصلوا معي تحدثوا عن انهيار الكثير من المنازل من أساساتها، إذا كانت الإجابة بالإيجاب، فإن هناك تساؤلا فرعيا ينبغي أن يطرح وهو: كيف بُني بعضها على مجاري ومهابط الأدوية والمنخفضات؟ وإذا ما اعتدينا بهذا التساؤل الأخير، وكانت إجابتنا على التساؤل الأول سلبية، فإنَّ التساؤل الفرعي مع التساؤل الفرعي الثاني، ينبغي أن يطرح هنا على النحو التالي: كيف صُرفت أراضٍ سكنية في هذه المناطق، وهي بخطورة عالية المستوى؟

هذه التساؤلات لا تفتح الماضي السلبي دون غاية، وإنما بحثًا عن الحل المُستدام بعد انكشافات "شاهين"، ومن قبله "جونو" و"فيت" و"مكونو". وحتى نتجنب تداعيات المتتالي منها، وهو متوقع في ضوء التوقعات المناخية لوقوع بلادنا ضمن حزام الأعاصير لإطلالتها على بحر العرب وبحر عُمان، فإنَّ أهمية القضية تكمن في نقل التفكير من إعادة تأهيل المنازل المتضررة إلى التفكير في نقلها إلى مواقع صلبة وأكثر ارتفاعًا، حتى يمكنها مواجهة الأنواء المناخية، أو جعل الخسائر في حدها الأدنى كأسوأ الاحتمالات.

ولا نتصور أن يكون الحل المثالي لتداعيات إعصار منصبٌ على إعادة تأهيل المنازل المتضررة، والتعويض عن الأضرار التي أصابت الممتلكات الخاصة، وإصلاح البنية التحتية المتضررة، ونغلق ملف شاهين، فهذه رؤية قاصرة، لا تستجيب للتحديات المقبلة، ولا ندير الأزمات المتوقعة بالإدارة المسبقة، فقد تتكرر نسخ "شاهين" ونظيراتها، وتحدث نفس الماسي والأضرار وربما أكثر- لا قدر الله- وسنظهر أننا لم نعالج أصل المشكلة المولدة للمآسي والأضرار، وإنما عالجنا مظاهرها فقط، لذلك، فقضية شاهين أكبر من قضايا الإصلاح والتعويض، وفوق أية لجنة وزارية مؤقتة.

وأرى من الأهمية الوطنية أن تتوسع اللجنة الوزارية ويتطور مهامها بحثًا عن الحل المستدام الذي لن تتكرر معه المآسي والأضرار في حالة تجدد الأنواء المناخية مثل شاهين، فهذا هو الهاجس الوطني الذي ينبغي أن يكون مرشدا لعمل اللجنة، ودونه، فلن نكون على مستوى الحل المستدام، وإنما يدخل ضمن الحلول المؤقتة فقط، ومن هنا نرى، أن يتم استئجار سكن للمواطنين القاطنين في هذه المنازل المتضررة لمدة عام، على أن يتم بناء منازل جديدة لهم في مواقع صلبة ومرتفعة في توازٍ مع التوجه السريع نحو إقامة دفاعات قوية وتوسيع مجاري الأودية لحماية الباطنة من السيول والفيضانات والتقليل من مخاطر الأعاصير، بحيث تكون الباطنة كنموذج يعمم على كل المحافظات مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الجغرافية والمناخية.

ونعتقد أن السيولة المالية متوفرة أو على الأقل في جانبها الأساسي للحل المستدام، فالتبرعات المليونية من الأفراد والمؤسسات والشركات الخاصة والعمومية والحكومية، تفتح لنا المجال لتنفيذ هذا التفكير، وينبغي أن ندفع به عبر حث كل الشركات والمؤسسات والأثرياء نحو صناعة الحل المستدام والآمن للبشر ومنشآتهم الاجتماعية والاقتصادية.