8 أكتوبر.. يوم التطوع العُماني

حاتم الطائي

8 أكتوبر لحظة تاريخية فارقة في مسيرتنا الوطنية تجسد أنبل المعاني وأصدق المشاعر

ضرورة اتخاذ خطوات عالمية عاجلة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري المُسببة للأعاصير

نطالب بإعادة تخطيط المدن ووضع اشتراطات جديدة للبناء لتوفير مزيد من الحماية ضد الأنواء

إن قُلنا إنِّها مَلحمةٌ وطنيةٌ سطرتها سواعد شباب وفتيان عُمان البررة، يوم الثامن من أكتوبر 2021، فهذا وصفٌ تقليدي اعتدنا عليه في مثل هذه الظروف، لكنّ ما حدث في حقيقة الأمر، لحظة تاريخية فارقة في مسيرتنا الوطنية، لا تقل في أهميتها عن اللحظات التاريخية التي دونها المؤرخون على مرِّ تاريخنا الممتد لآلاف السنين، فما رأيناه بأمِّ أعيننا صبيحة ذلك يوم الأغر، وفي ظهيرته وحتى وقت متأخر من الليل، وما استمر ومستمر حتى هذه اللحظة، تجسيدٌ واقعي لمعاني النُبل والتآخي والتآزر والتلاحم والتعاضد والتكافل والمساندة والدعم والإخاء والنخوة، وكل كلمة نطق بها العرب في قواميسهم ومعاجمهم لتُعطي ذلك المعنى الذي تجسد في ما قام به أكثر من 15 ألفًا من المتطوعين والمتطوعات إلى جانب رجال قوات السُّلطان المُسلحة وشُرطة عُمان السلطانية، وغيرهم الكثيرين من أصحاب الهمم العالية والرغبة الأكيدة في خدمة الوطن، بهدف تخفيف وإزالة الأضرار التي خلفتها الأنواء المناخية وخاصة في ولايتي السويق والخابورة.

لقد ظنّ البعض خطأً أنَّ المِحَن التي مرَّت على العمانيين، والتحديات التي واجهوها خلال الأعوام القليلة الماضية، قد غيّرت من سمتهم وسماتهم؛ لكن ما برهنه الواقع وأكدته المشاهد المُضيئة بنور المواطنة المسؤولة، أثبت أنَّ هذه المحن لم تزِد كل عُماني إلا إصرارًا على مواصلة العطاء، ولم تكن سوى معينًا ينضح بالحب والوفاء والنخوة، ليُضاعِف تلك المشاعر التضامنية والتكافلية لدى كل عُماني أضعافًا مضاعفة.

إنَّ يوم الثامن من أكتوبر يوم وطني بامتياز، يستدعي من الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارة التنمية الاجتماعية، أن تُعلنه يومًا عُمانيًا للتطوع، ليُضاف إلى أيامنا الوطنية، التي تبعثُ في النفس الفخر والانتماء لتراب هذا الوطن العزيز بأهله، الكريم بطبعه، المؤازر بفطرته. ولا شك أنَّ احتفالنا بهذا اليوم ليس فقط لمُجرد الاحتفال؛ بل في حقيقته احتفال بما تُنجزه الأيادي الوطنية السخية من عمل دؤوب، وما تقدمه من عطاء يشرُف به كل عُماني وعُمانية، بل كل إنسان يُؤمن بأنَّ السُّمو الإنساني يتجسد في معاني التراحم والتلاحم والتكاتف، بين بني البشر، سواء اجتمعوا في أرض واحدة، أو لم يجتمعوا.. إن هذا هو المعنى الأكثر نُبلًا والأعلى شأنًا في مسيرة كل إنسان ذي ضمير يقظ، يتلمس حاجة النَّاس والمجتمع، فيهبُّ هبّةً يذهُل من قوتها العالم.

رأينا جميعنا كيف تناقلت وسائل الإعلام الإقليمية والدولية ما سطرته السواعد الفتية من ملاحم، جسدت حبَ الوطن، والتفاني من أجله، كانت مشاهد الشباب وهم يرفعون أطنانًا من الطمي والأثاث المُدمّر والمنازل المُحطّمة، ويفتحون الطرق جنبًا إلى جنب مع المُعدات الثقيلة، مشاهد فخر وطني، ستظل محفورة في الذاكرة أعوامًا وأعوامًا.

ولا شك أن الاستفادة من هذه الطاقة الوطنية الإيجابية ستعود بالنفع علينا جميعًا، وذلك من خلال المزيد من تنظيم العمل التطوعي، وقد أثبتت القطاعات المعنية بهذه الجوانب كفاءة عالية في التنظيم، لكننا نقترح هنا تأسيس كيان وطني شامل جامع لإدارة الفرق التطوعية وشباب المتطوعين غير المنتسبين لأيٍ من هذه الفرق، فقد شاهدنا اصطفاف السيارات على طول طريق الباطنة لعشرات الكيلومترات، جميعهم توجهوا إلى المناطق المتضررة من الحالة المدارية "شاهين"، مُحمّلين بأطنان من المواد الغذائية، ومعدات التنظيف، وعبوات وقنينات المياه بكميات كبيرة، فضلًا عمّن أتى مُقدِّمًا ساعده الأيمن من أجل المساهمة ولو بالجهد في رفع الضرر وجبر خواطر من ضاقت بهم الأحوال.

وما مرَّت به عُمان من خطر هذا الإعصار، يدفعنا إلى التفكير عميقًا في أهمية أن تقود دبلوماسيتنا الوطنية جهدًا عالميًا من أجل اتخاذ خطوات فاعلة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري؛ إذ إنَّ تزايد الأعاصير والأنواء المناخية المُدمّرة، انعكاس لما يُعانيه كوكبنا من احترار غير مسبوق، وقد شاهدنا فقط في الشهرين الماضيين ما حدث في العالم كله في مناطق ودول بآسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا وأستراليا ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، من فيضانات وسيول جارفة، تسببت في خسائر، فضلاً عن حرائق الغابات التي التهمت عشرات الآلاف من الهكتارات في تلك المناطق. فالتداعيات التي يُعاني منها الجميع، تتطلب تضافر الجهود العالمية للحد من هذه المخاطر، والبدء فورًا في تنفيذ الاستراتيجية العالمية التي أقرتها الأمم المتحدة لتحجيم ظاهرة الاحتباس الحراري.

ومما يستدعي أيضًا أن نلقي عليه ضوءًا كاشفًا، ضرورة التعجيل بإعادة تخطيط المدن، وخاصة في المناطق الواقعة في مسارات الأودية؛ سواء من حيث إنشاء مخططات بديلة في أسرع وقت ممكن، أو وضع اشتراطات وأكواد بناء جديدة، تشتمل على أعلى إجراءات الحيطة والحذر، وفق معايير دولية تضمن توفير الحماية اللازمة من الأنواء المناخية.

وقبل الختام.. كلمة شكر خالصة وصادقة نُقدمها لرجال عُمان البواسل في قوات السلطان المُسلحة وشُرطة عُمان السلطانية، ومُؤسسات الدولة المدنية، والقطاع الخاص والمؤسسات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني، وكل شاب وفتاة تطوّعوا لأجل رفع الضرر عن أهلنا في المناطق المتضررة، وإنني لأقترح إقامة حفل خاص لتكريمهم على ما قدَّموه من عطاءات وطنية، وإن كان ذلك أقل ما يُمكن أن نقدمه لهم.

ولا يفوتني هنا أن أُشير إلى جهد خاص قام به إعلامنا الوطني المهني، فالتغطية التي لم تتوقف سواء في جريدة الرؤية، أو التلفزيون الرسمي أو الإذاعات والمواقع الإخبارية، كانت محطَّ إشادة من الجميع، وكذلك الحسابات الحكومية الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي التي ساهمت في إدارة الأزمة عبر البيانات السريعة المهنية؛ لتضع الجميع في قلب الحدث بكل مصداقية وأمانة. إنَّ الإعلام العماني أثبت أنه عينُ كل مواطن، ليرى من خلاله الصورة الحقيقية، والجهد المُضني الذي بذلته- وما زالت تبذله- مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص... فلهم الشكر والتقدير.

وختامًا.. إنَّ ما شهدناه من تحديات خلال هذه الأنواء، وما سبقها وما قد يأتي- لا قدر الله- سيزيدنا إصرارًا على المضي قدمًا بعُمان نحو مرافئ التقدم والازدهار، خلف القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- مستنيرين بحكمة جلالته وتوجيهاته السديدة في كل مناحي الحياة. فيا أبناء عُمان أنتم من كرام العرب، وستظل صفات الشجاعة والنخوة والمروءة مُتأصلة في جيناتكم الطيبة، ومُتجذرة في معدنكم الأصيل، فواصلوا المسيرة واستمروا في صناعة التاريخ وتدوينه بمداد من ذهب ونور.

الأكثر قراءة