"شاهين".. والنعم الإلهية

مدرين المكتومية

الكثير من النِّعم التي يمُن الله علينا بها لا نعلم قيمتها ولا نشكر المولى عليها في مُعظم الأحيان، إلا من رحم ربي، لكن ثمة مواقف تجلعنا نتدبر ونتأمل نعم الخالق علينا، تلك النعم التي اعتقدنا يومًا ما أنها "حق مكتسب" وليس فضلا من الله على بني البشر، وما أكثر هذه المواقف التي تذكرنا بما نحياه من عيشة طيبة تستحق شكر الإله وحمده.

فمن كورونا إلى شاهين، وما بينهما من أحزان أو مصاعب أو تحديات، نُدرك ما نحن فيه من نعم، فكورونا الذي بثَّ الرعب في نفوس العالم، وجعل كل فرد يخشى الاقتراب أو ملامسة الآخر، حتى لو كان أقرب الناس إليه، فضلاً عمَّا خلفه- وما زال- من ضحايا، ومصابين يعانون الآن من أعراض مستمرة فيما بات يعرف بمرض "كوفيد المزمن"، وهناك من فقد أحباءه في حوادث سير أو بدون سبب خارجي، فعاش في حزن ولم يعرف قيمتهم الحقيقية إلا برحيلهم.. ثم جاء الإعصار المداري "شاهين" ليكشف لنا عن ضعفنا الشديد أمام الإرادة الإلهية، ويؤكد لنا ضآلة حجمنا في هذا الكوكب المهيب، فقد هبَّ الإعصار علينا برياحه العاتية وأمطاره الغزيرة جداً، ليأكل الأخضر واليابس في طريقه، ويشرد العائلات ويحطم المنازل، ويُغرق المزارع والحيوانات، ويعيش الناس في ظروف صعبة للغاية، وكأن الزمان عاد بهم إلى العصور الأولى؛ حيث لا مياه شرب صالحة، ولا كهرباء تضيء لهم منازلهم، وتخفف عنهم من حرارة الطقس، ولا شبكة اتصالات تساعدهم على الاطمئنان على بعضهم البعض أو الاتصال بخدمات الطوارئ.. عادت الحياة إلى بدائيتها كما لو أننا لا نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي أو إنترنت الأشياء..

فجأة أدرك النَّاس قدر النعم التي يعيشون فيها، عرفنا جميعًا قيمة أن نملك منزلًا تصله الكهرباء والمياه النظيفة حتى لو لم نملك غير ذلك، فمقومات الحياة الأساسية نعمة كبيرة لن نعرف مقدارها إلا عندما نفقدها.

جميعنا ذات مساء كنَّا تحت رحمة الله بنا ولطفه، كنا ننتظر ونترقب الحالة المدارية التي تابعنا الجهات المعنية تتنبأ بها، وتحذر منها، البعض منّى نفسه بأن الأوضاع ستكون بخير بمشيئة الله، وأن الإعصار ربما ينحرف بعيدًا عنَّا ويتحول إلى البحر، كما حدث في مشاهد سابقة، لكن هذا الشاهين قرر أن يطير بسرعة نحونا، وأن يمارس نشاطه المدمر في أرض عُمان، فكان أن ضرب مسقط وفعل ما فعل، فهطلت الأمطار الغزيرة وعصفت الرياح بالكثير من الممتلكات، مسببة خسائر كبيرة، ثم واصل هيجانه نحو ساحل الباطنة، ليأكل الأخضر واليابس هناك، فكانت المصنعة والسويق والخابورة وما وراؤهم وما بعدهم هدفًا لعين هذا الإعصار، فتحولت هذه الولايات وقراها إلى بحار وأنهار تجرف في باطنها كل ما يقابلها بلا رحمة وبلا هوادة.

لم يترك الإعصار بيتًا إلا وأغرقه بمياه الأودية الجارفة العظيمة، ولا مدرسة إلا وقد أتى عليها، ولا منشأة ولا أرضًا زراعية ولا زريبة إلا وقد أغرقها وتسبب في نفوق الحيوانات وأتلف المحاصيل..

هذا ما عاشه الكثير من أبناء عُمان وهم تحت وطأة "شاهين" الذي لم يدرك للحظة أننا منذ فترة ليست بالقصيرة ونحن نعيش فواجع الفقد، ونعزف ترانيم الآلام، ونطوي صفحات الحزن الطويل يومًا تلو الآخر.

لكن في قلب كل محنة منحة وعطيةٌ إلهية، فالرب يبعثُ لنا برسائل تخبرنا أنَّ رحمته وسعت كل شيء، فرغم الخسائر التي تعرضنا لها، إلا أن هذه المحنة كشفت لنا عن المعدن الأصيل لنا نحن العمانيين، فكل الذين ساهموا- ويساهمون الآن- لرفع الضرر وجبر الكسر ومساعدة كل محتاج، سطّروا ملاحم وطنية بعثت في النفس السعادة والاطمئنان على أن هذا الشعب في رباط إلى يوم يبعثون، وأننا لن نُضار طالما وقفنا صفًا واحدًا وتعاضدنا سويًا من أجل تجاوز التَّحديات والصعاب. وهنا نحن نرى شركات كبرى وبنوك ومؤسسات وحتى محلات تجارية صغيرة تخصص مبالغ مُقدرة لمساعدة ضحايا الإعصار، والعمل على إعادة الحياة إلى طبيعتها بل وأفضل مما كانت عليه. رأينا ذلك وسنرى المزيد، بإذن الله، لأنَّ العمانيين جسد واحد، يؤازرون بعضهم البعض في كل المواقف والأحداث.

وأخيرًا.. علينا أن نُدرك ما نعيش فيه من نعم كثيرة، في هذا الوطن المعطاء، ولا يجب أن نتذمر أو نشكو لأنَّ هناك من لم يحصل على وظيفة حتى الآن، أو أن شخصًا ما غير قادر على بناء مسكنه ويعيش بالإيجار، علينا أن نرضى بالقليل ونقتسم الخير، وأن نوحّد الجهود نحو بناء الوطن، ودعم كل خطوة إيجابية تُساعد على المضي قدمًا نحو المُستقبل المزدهر بأمر الله تعالى.