صديقي الباكستاني

 

عبدالله الفارسي

 

حين تُسافر إلى مكان بعيد عن وطنك مُختلف عن عقيدتك وفكرك، لا تدهشك المباني والأبراج والجسور؛ بل تدهشك الأفئدة والنفوس والقلوب، يدهشك الناس والبشر وليس الحدائق والغابات والبحر.

قاصد الدين شريف.. ليس صاحب مصنع الطابوق اليدوي الذي يقع في أطراف منطقتنا الصناعية، وليس ذلك الميكانيكي ذو الإصبع الخنصر المبتور الذي أصلح عطل سيارتي المعقد، وأيضًا ليس ذلك الباكستاني الذي قام بتركيب ديكور السقف لمنزل جاري، وبعد شهر سقط الجبس فوق مائدة طعامهم، أثناء تناولهم الغداء ولم تسقط فوق رؤوسهم!! إنه صادق الدين شريف الأسترالي الباكستاني، كان يسكن بجوار منزل السيدة العجوز أنجلي؛ تلك المرأة التي أخبرتكم سابقًا أنني تورطت في السكن معها. حين علم قاصد الدين شريف بأنَّ طالبا عربيا سيسكن معها فرح فرحًا شديدًا وجاء في اليوم التالي قارعًا جرس بابها. ما زال الباكستانيون وغالبية سكان القارة الآسيوية والأفريقية المسلمة يتوهمون حتى اللحظة أنَّ العرب هم أحفاد الصحابة وسلالتهم الطاهرة النقية المتبقية، رغم كل هذا التردي في المنطقة العربية.

ذات عصرٍ سمعتْ صوت الجرس، فنهضتْ العجوز لتفتح الباب فقلت لها: استريحي في مقعدك لا يجوز أن يقوم كبير السن ليفتح الباب وهناك من هو أصغر سنًا منه، فنظرت إليَّ باستغراب وكأنها تسمع هذه القاعدة السلوكية الإسلامية لأوَّل مرة في حياتها، وحدقتني بعينين زرقاوين حادتين كعيني سمكة نادرة.

ذهبتُ لأفتح الباب، فإذا بوجه مألوف لديَّ ومألوف معنا في منطقة الخليج العربي، قال لي بصوت واضح ولغة سليمة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فانسكب سلامه ناعمًا لذيذًا رقيقًا على سمعي وهطل دافئًا حميمًا على روحي في مكان لم أتوقع أن أسمع فيه هذا السلام الخالد. صافحني بيد ضخمة كأنها قطعة عريضة من الجرانيت الصلب، وقال لي أنا قاصد الدين شريف جاركم الباكستاني، أخبرتني السيدة أنجلي بموعد قدومك، فأحببت أن أسلم عليك وأدعوك لتناول الغداء معي. وعدته بالحضور للغداء معه ولكن بعد عدة أيام. ثم ابتعد عني فأخذت أتأمله وهو يمشي كأنَّه فيل آسيوي عظيم أو كائن خرافي منقرض.

كبرت العلاقة بيننا كثيرًا، وتطورت بشكل غير طبيعي، كنَّا نجلس يوميًا كل مساء في المساحة الخضراء الصغيرة خلف بيته. فكنتُ أقضي جلَّ وقتي معه وكنت أجلس في حديقة منزله أكثر من جلوسي في بيت العجوز أنجلي.

وقبل سفري بأيام جاءني وكان حزيناً جدا يكاد أن يبكي، فقلت له: ما بالك أيها الضخم العظيم!

فقال: هل صحيح أنك ستعود إلى وطنك؟ لقد أخبرتني السيدة أنجلي بأنك ستعود أدراجك إلى بلدك، لماذا؟ كان يكلمني وهو يتحشرج، وكأن حجرة صغيرة تسكن في حلقومه تحجز خروج كلماته وتبعثرها. لم أتوقع من هذا الرجل الضحم أن يكون بهذا القلب العصفوري الرقيق ولم أتوقع أن إنساناً هائلاً بهذا الحجم توجد في عينيه دموع، قال لي: عبدالله أجلس هنا أرجوك. هنا المستقبل، أنت ذكي جداً ستنجح هنا نجاحاً باهرًا، ستحقق نفسك هنا وسترتفع هنا.

كان لدى قاصد 4 بنات؛ أكبرهن في السابعة عشرة، كل واحدة منهن كانت تنافس القمر جمالًا وشعاعًا وفتنة، وحين قررت العودة والنكوص قرارًا نهائيًا حاول أن يثنيني عن قراري ويمسكني من الكتف التي تُؤلمني كان يعلم بميولي النسائية ورغباتي المُشتعلة، ففاجأني بقوله: اجلس يا عبدالله سأزوجك ابنتي الكبرى، لن أجد لها زوجًا أفضل منك فقط أرجوك أجلس ولا تسافر.

قلت له: يا قاصد أنت تمنحني ثقة لا أستحقها، أنا متزوج يا قاصد وهناك من ينتظرني، وابنتك الجميلة كل رجل يتمناها في هذه الكون البائس، وستحظى بزوج رائع وحياة كريمة. إنها صغيرة يا قاصد صغيرة جدًا على أفكاري، صغيرة على هواجسي، صغيرة على شطحاتي وأوهامي. فصمتَ لدقائق ثم استأنف حديثه معي، وقال لي: أرجوك يا عبدالله لا تُسافر.. هنا مستقبلك.. هنا يحترمون الأذكياء ويقدرون الفكر ويبتسمون لأصحاب الأقلام والمثقفين، هنا ستنال الرعاية وستحظى بالعناية، لا تضيع فرصة العمر الذهبية هذه يا عبدالله.

ثم صرخ في وجهي قائلًا: "انظر إليَّ أنا أحمق كبير ومع ذلك حصلت على الجنسية الأسترالية وأحظى بحياة مرفهة. لو كنت في باكستان كنت سألتقط طعامي من صندوق القمامة".

قلت له: المتعوس متعوس يا قاصد ولوحطوا على رأسه فانوس. يجب أن أذهب وأعود؛ حيث الفشل ينتظرني بلهفة واشتياق، يحب أن أرجع إلى الصعاب، يجب أن أعانق المشكلات، فذاك مصيري وذاك قدري.

يجب أن أعود أدراجي حيث قدري، يجب أن أذهب وأتجرع المرارات التي تنتظرني هناك جرعة جرعة، وأستوفي حقي من الألم كاملًا يا صديقي قاصد.

أربك قاصد الدين قلبي، وهزَّ فؤادي، حين رأيته وهو يحاول أن يخفي دموعًا عزيزة سالت على خذه، فأجبرني على مبادلته الدموع، واضطرني أن أعزف معه مقطوعة رقيقة من البكاء العذب الجميل.