عائشة السريحية
إن القرآن الكريم رغم كونه أساس التشريع الإسلامي ومصدره الأول، يعد منهجا تعليمياً متكاملاً، فلا يقتصر على العبادات والمعاملات فقط بل إن فيه ما يجد الباحث من العلم مافيه، فمن خلاله يستنبط القارئ مدلولات ومفاهيم عميقة تبعد عن الغموض والصعوبة فيستطيع المسلم أيا كان مستواه التعليمي أن يفهم معانيه ويتدبرها، وقد قال عزَّ وجلَّ: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"، ونجد أن الآية قد تكررت في سورة القمر، والتكرار في القرآن يوحي بالتأكيد بنقطة معينة ودلالة واضحة لتأكيد المعنى والتركيز عليه.
ونحن حين نقرأ القرآن نتعلم منه ونستزيد، ونقف على آياته ونتساءل، ثم نبحث عن التفاسير والمعاني ومدلولاتها من لدن أهل العلم وخاصته، ثم نقارن بين نور منهاجه وبين سلوكياتنا، فإن وجدنا فيها خللا أصلحناه، وإن رأيناه ينطبق على غيرنا نصحناه، وإن لم يقبل تركناه، والدين معاملة، والعبادات وحدها لا تكفي لاستقامة المجتمع، والعظة والعبرة من قصص القرآن تعلمنا ولن نتعلم منها إلا إذا وقفنا عندها مطولا وتأملنا وتدبرنا.
التوجيه الرباني في ثنايا القرآن الكريم يتجاوز المفهوم البسيط لما هو أعمق، ولعلي وأنا لست بعالمة ولا فقيهة، ولكني كمتدبرة لكتاب الله تعالى وببساطة فهمي وقفت على هذه السورة "المسد" أتأمل وأتدبر في المعنى العميق للدلالة في نموذج أبي لهب وحمالة الحطب، أبو لهب رغم أنَّه عمُّ سيد الخلق أجمعين، لكن صلة الدم والقرابة والنسب الذي تحدث عنه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: "أنا خيار من خيار" لم تعفه من كونه نموذجًا للظلم والكفر والطغيان، ولولا وجود هذا النموذج؛ لأصبح ربما هناك الكثير من المفاهيم المغلوطة، حول أهمية الصلة والقرابة بالدم، وكانت ستجعل منظور النسب في الإسلام مقدماً على المعايير الأخرى.
وحين نزلت سورة المسد نسفت أي مفهوم قد يُعلي من شأن النسب في مكانة الإنسان عند الله سبحانه وتعالى وعند المسلمين كذلك، لكنه جلَّ في علاه قال "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وهذا ليس ما أود أن أتحدث عنه، ولكنه ذكر لتوضيح مفهومي الشخصي لمعنى السورة من حيث المبدأ، وبالعودة للسورة القصيرة التي عدد آياتها 5 آيات.
نجد أن الله سبحانه وضع لنا نموذجين فلم يذكر عم النبي عليه الصلاة والسلام باسمه الحقيقي، ولم يذكر زوجته باسمها الحقيقي؛ لأن هذين النموذجين سيتكرران على مر العصور، والإسلام دين صالح لكل زمان ومكان له ثوابت ومتغيرات لا تتعارض مع أحكامه وتشريعاته، وبالتالي فإنَّ نموذج أبي لهب ليس حصرًا على ما فعله أبو لهب وانتهت السورة بذلك؛ بل هي دلالة عميقة لأي شخص في أيِّ عصر وزمان يتطابق وصفه مع أبي لهب، فالمال والنسب والقوة لا تعفي المرء السيئ من أن يكون نموذجاً يملؤه الطغيان والكبر والظلم والغرور، ونموذج حمالة الحطب، يطرح على كل امرأة تعين على الظلم والطغيان والتسلط والأذى للغير، نماذج أبي لهب وحمالة الحطب موجودة حول العالم بغض النظر عن الدين والعقيدة والانتماء، بل إن المجتمعات على سطح البسيطة مليئة بهذا النوع، فنرى أن أبا لهب في العصر الحديث لا يأبه أن يكون قاتلاً، أو مجرما، أو منتهكا ومغتصبا، طالما هو يظن أن ماله وماكسب سيغنيه، لا يستشعر الحق ولا ينصر المظلوم، لا يراعي الجيرة ولا القرابة ولا العشرة، لا يتوانى عن أذى غيره وتسلطه عليه، محتقرا من هم دونه أو كما يظن أنهم دونه، يسعى في الأرض همازا مشاءً بنميم، يجر ذيله من الخيلاء، مُتكبر لا يحض على طعام مسكين، متعالياً لا يرد حتى التَّحية إلا على من كان له معه مصلحة، مقيما للناس حسب ترابط المصالح معهم، لا يتورع إن كان ما يكسبه حلالا أو حراما، ربما دخل في ذمته دم أو خراب أو فساد بين النَّاس، لا مبدأ له ولا ثوابت.
حمالة الحطب أجدها امرأة، وأجدها رمزا لليد اليمنى لأبي لهب فهي المعينة على إيقاد النَّار وزرع الفتنة وتأجيجها، قد تكون نموذجا لامرأة وقد تكون رجلا، لكنها الذراع الأيمن والمخطط الخفي مهمتها التخطيط لتدمير المحيط إن شعرت فيه خطرا، مجيدة لاستخدام التضليل عبر وسائل الإعلام، تدس السمَّ في العسل، تهاجم وتقدح وتفرد سياطها، لا يهم من تكون ولا تهم أي جنسية تحمل، فهذه النماذج تنتشر كما تنتشر البكتيريا على هذا الكوكب.
ولربما هذه السورة تحثنا على أن نعي جيدًا سبب نزولها، والبحث في ما فعله أبو لهب وحمالة الحطب، ما الذي جعلهما نموذجًا للكفر والطغيان، كيف كان سلوكهما وإلى أيِّ مدى بلغ أذاهما، وحين نعرف السلوك الذي انتهجاه سنعرف جيدًا ما الذي علينا تجنبه وتفاديه، وما الذي علينا كمُسلمين أن نبتعد عنه كل البعد.