فيلم الجوكر

عبدالله الفارسي

 

صرحتُ لكم في مَقالٍ سابق بأنني لستُ ناقدًا فنيًا، أنا مجرد كاتب يرى ويشاهد ويكتب وجهة نظره فيما يراه ويشاهده، والتي قد تختلف تمامًا مع وجهات نظر الكثيرين، فالاختلاف ظاهرة صحية بشرط أن يحكمها عقل ناضج ومنطق سليم، ويضبطها ضمير يقظ وحي.

المهم هو أن اكتب رأيي، واستمع لآراء الآخرين، هذه أبسط الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان في هذا العصر الذي يفترض أن يكون عصرًا متقدمًا ومحترمًا وشريفًا. 

سبق وأن شاهدت فيلم "الجوكر Joker" في بداية عرضه عام 2017، لكن لم أستطع الاستمتاع بالفيلم في قاعة السينما، فقد كانت مليئة وصاخبة ومزعجة، وكان هناك الكثير من الضحكات الغبية والحمقاء والتي لم تفهم حقيقة الفيلم؛ حيث إن مُعظم مرتادي القاعة تلك الليلة كانوا يعتقدون بأن "الجوكر" هو رجل فكاهي وأنَّ الفيلم سيصفعهم بالضحك؛ لذلك تعالت الضحكات في القاعة بكل جهل وغباءِ وبلادةٍ.

قررتُ قبل أيام مشاهدته من جديد وقراءته من جديد، وإليكم قراءتي لهذا الفيلم الفريد.. لقد شاهدتُ الفيلم بتعمقٍ وتأملٍ، عشت فيه، تفاعلت في خفاياه، تدفقت في خلاياه وانجرفت مع تياره. لقد أبدع المخرج في فيلمه بشكل مُذهل، إبداع في التصوير، إبداع في الموسيقى التصويرية، إبداع في الإضاءة، وإبداع في الأصوات المتناغمة مع حركة الأشياء وشخصيات الفيلم، أبدع الممثل الرئيس في الأداء بشكل ملفت للانتباه وكان من الطبيعي والمنصف جدًا حصوله على جائزة الأوسكار. خلال مشاهدة الفيلم، تعيش ساعة و40 دقيقة مع شخص أفرزه المجتمع، وانتجته الحياة المعاصرة، ظلمه المجتمع، سحقه، حوله إلى كومة من اللحم والعظم، جعل منه لا شيء، خلق منه مخلوقًا بائسًا يحاول أن يضحك الآخرين وأعماقه تتمزق، بداية من أمه التي كانت تعامله كنكرة ونهاية بوالده الذي أنكره ولم يعترف به من الأساس.

يحاول هذا المخلوق البائس اجترار الابتسامات من أفواه من حوله، وقلبه يتألم ويتقطع وينزف، يضحك دون سبب وبشكل عصابي، ويفكر في الموت بشكل هوسي، يعاني من أمراض عصبية كلها من إنتاج المجتمع، غرسها المجتمع الجاحد في قلبه وظل يحملها طوال عمره.

بسبب التهميش والاحتقار والتجاهل وعدم الإحساس بهذه الفئة من البشر، واعتبارهم مجرد آلات موجودة للعرض، كائنات خلقت للتندر والفكاهة والسخرية، مجتمع الأغنياء المخملي وتأثيره الإجرامي في ارتفاع نسبة الفقر، ومعاناة طبقات كثيرة في المجتمع، يحكي الفيلم بشكل غير مُباشر كيف تسبب الأغنياء في إذلال الفقراء، وبؤسهم وعذابهم، كيف تحول البشر إلى كائنات ممسوخة، قاسية، عديمة الإحساس، كشف الفيلم، نوعية البشر وكيفية تطورهم من كائنات بشرية إلى آلات صماء لا تشعر، ولا ترحم، أظهر الفيلم بشكل واضح: عدم وجود الرحمة، عدم وجود الشفقة، عدم وجود العدالة؛ إذ إنَّ فقدان هذه القيم أدى إلى ظهور هذا النوع من البشر المسحوقين. إنكار أحاسيس الناس ودهسها، وعدم منحهم حق الحياة كيفما يحبون.

قرر الفيلم 3 مبادئ خطيرة: الحياة لأجل لا شيء، الضحك لأجل لا شيء، والموت لأجل لا شيء!

وأثبتها بطريقة مؤلمة للغاية من خلال حياة إنسان يتمنى أن يموت بطريقة أفضل من حياته. أبدع المخرج في تصوير أثر تحطيم أحلام الغالبية العظمى من البشر، وقتل تطلعاتهم، ودفن أمنياتهم. كل ذلك قدمها المخرج تود فيليبس، والممثل المبدع لشخصية الجوكر joker ، خواكين فينكس.

عرض الفيلم واقع مدينة جوثام كنموذج للمدينة التي تعاني من مختلف الأمراض الاجتماعية والنفسية، والثراء الفاحش لطبقة قليلة من الناس مقابل الفقر المدقع والعوز المؤلم للشريحة الكبرى من السكان.. جوثام مدينة مريضة مثلها مثل مئات المدن في هذا العالم المريض؛ حيث الصراع الأزلي المرير بين الأثرياء والفقراء.

في النهاية إن الحقيقة الكبرى التي أراد الفيلم أن يوصلها هي: أن غالبية البشر هم مجرد "جواكر" في هذه الحياة، لا قيمة لهم، إنهم مجرد إضافات زائدة غير مرغوب فيها، إنهم كائنات زائدة عن الحاجة، وأن حياتهم مجرد فوضى وسط نظام يعج بالفوضوية ويكتسي بالتفاهة. بشر خارج نطاق الاهتمام، وخارج دائرة المكانة والقيمة. الجوكر هو رجل يتوق إلى أن يعيش تجربة عاطفية مع امرأة، لكنه كان عاجزًا؛ لأن أعماقه كانت قد وصلت درجة التحطم والسحق والانكسار. الجوكر هو الرجل الذي يبحث عن السلام النفسي مع ذاته من خلال انتزاع ضحكات محتضرة من أعماقه، ولكن كل ما حوله يحاربه ويدمره ويسحقه ويقضي عليه.

يقول لنا الفيلم إننا ربما نكون كلنا "جواكر" في هذه اللعبة العبثية التي تسمى الحياة، فهي لعبة يتحكم فيها ويلعبها الأثرياء بكل دناءة وقسوة. اعتقد أن الفيلم قدم تحليلًا حقيقيًا لواقع الحياة المعاصرة، وبؤسها، وسخفها، وعبثها، ولا جدواها، وأطلق صرخة غضب مُغلفة بالضحك مصبوغة بالسخرية على مستقبلها القاتم، الذي يلوح في الأفق.

يشير الفيلم إلى حقيقة خطيرة وهي أن "الجواكر" في ازدياد مضطرد، كلما أوغلت الحياة في تعاستها وظلمها وسوادها. ليس شرطًا أن تكون ملطخ الوجه بالأصباغ وتحمل أنفًا بلاستيكيًا أحمر طويلًا لتكون "جوكر"، أي إنسان عادي ربما يكون مسجلا في الحياة على أنه مجرد جوكر لا قيمة له.

آرثر فليك (الجوكر)، موجود بكثرة في مجتمعاتنا ويتكاثر بوتيرة سريعة في كل المجتمعات الظالمة والفاسدة ولكنه بدون أصباغ على وجهه وبدون أنف مطاطي أحمر وملون. موجود في مستشفى الأمراض العقلية، يتسكع في الشوارع باحثًا عن لقمة عيش، موجود أمام أبواب المؤسسات والشركات يبحث عن عمل، موجود في البيت مسرح من عمله، وموجود في السجن مطلوب من البنك. كلهم "جواكر"، لكن بأشكال وصور مختلفة.

فيلم رائع جدًا وعميق جدًا ومُحزن جدًا، رغم عنوانه الضاحك وبوستره الفكاهي!