الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
جفَّ حلقُها، فتناولتْ كأسَ ماءٍ لتروي ظمأ ريقها.. ارتعشتْ يدُها، خانتْها القوة التي تصنَّعتها، متفحِّصةً تلك الجالسة أمامَها، فَرَكتْ يديهَا لتُخفي حُرقتها.. عجيبٌ هو حالُها، تحشرجت الكلمات بين فمها وحنجرتها، رافضةً الخروج، فرطَّبت شفاهها، ثم قالت:
- "نعم، أنا الطرف الثالث.. زوجة الظل لزوجك".
حدَّقتْ بها الأخرى، ولم يَطرُف جفنها قط. أشاحتْ ببصرها بعد بُرهةٍ، وجالتْ ببصرها في أرجاء المكان.. مقهى مُرتَّب ونظيف، هادئ ومنزُوٍ عن الأنظار، تمامًا كحالها وحال تلك التي تفرك يدَها بقوَّة.. "الطرفُ الثالث" كما تُسمِّي نفسها، و"المضغة" كما يحلُو لي تسميتها.
****
بعد صَمتٍ، قُلتُ: "قصدك مُضغة.."، نَضحَت الأسئلة من عينيها، فأكملتُ حديثي: "أسميتي نفسك الطرف الثالث، وفي الحقيقة أنتِ مُضغة، تطحنُها رحَى الفم وتُبْصَق بعد الاستهلاك".
فتحتْ حقيبتها، وأخرجتْ ورقة، فتَحتهَا ووضعتهَا أمامي، وقالتْ: "هذا توقعيه وخطُّ يدِه، كله يُثبت أنَّني زوجته، أيضا".
نظرتُ إلى الورقة، وأطبقتُها، وأعدتُها إليها، تفحصتُ مَلامحها الوديعة، ثم قُلتُ: "أتعلمين ما هي خطيئة البشر الأولى؟ قَضم تفاحة فبانتْ السَّوءة وخُسِفت أوراقِ الشجر لموارتها.. أنتِ قد تملُكين الآن ورقةً وقَّع عليها بخطِّ يده، يُقر بأنه تزوَّجك سرًّا، ولكن ستظلين سَوْءَةً يجب أن تُوَارَى، فقط تُستخدمين لإراحة النفس أو لحظات أُنس، ولكن دائما وأبدا ستظلين وحيدةً مُخصَّصة للظلام والليل فقط".
زمَّت شفتيها، وحدَّقت بخشب الطاولة المصقُول بعناية، مُجِيبةً بارتعاش: "قال إنكما منفصلان، وأنه ينتظر فُرصة مناسبة للارتباط.. قال أحلاما وأشياء كثيرة جميلة ووعود دافئة و....".
قَطَعتُ حديثَها المهزُوز، وقُلت بهدوء: "أعلمُ ما قاله وما وعده به وما سيقوله بالغد، عاشرتُه سنينَ، وخبرتُ حاله، وما يُبطِن وما يُسِر".
حدَّقنا في بعضنا، وأردفتُ قائلةً: "لستِ أوَّل من يقول لها كل ذلك، ولا أظنُّ أنكِ آخرهن".
تنهَّدتْ بحسرةٍ، وبلعتْ رِيقَها، غرست أظافرها في الطاولة لعلَّها تفيقُ من كابوسها.
أما أنا، فأمسكتُ هاتفي، وفتحتُ مجلدَ محفوظات، به صُور مُحادثَات عِدَّة، وبأسماء مختلفة، مَمدتُ الهاتفَ لها، وقلتُ لها: "يُمكنكِ التأكد".
أطبقَ الصَّمت قليلًا، قبل أن تقول: "أعلمتي كلَّ ذلك، وصمتِّي".
ابتسمتُ بسُخرية، وقلت لها: "أتعلمينَ أنَّ السهر جميل حين يكون باختيارك، ومؤلم حين يختارك. حين ينسحبُ من السرير خِلسة ليلاً ليُحادثك، وحين أجهِّز الطعام وينشغل بالرسائل، وحين أنتظر ردَّه على سؤال بديهي ومنطقي وتافه، حين يبتسمُ مِلء وجهِه، وحين يتحيَّن الفرصَ للسفر أو الخروج ليس معي ولكن معكِ، وحين تُزعزِع خلجاتي غَضْبَة، وتَعصفُ بطرف عيني عَبْرَة، هل سيعُود لنا؟ أم سيختار الرحيل؟.. هذا هو لَيْلِي، وهذا هو السَّهر، دائمًا مترفٌ بالهدوء والألم".
أجابتْ بغَصَّة: "أردتُ ضِحكةً دافئة، وهمسةً حانية، إحساسًا بالحُب وإن كان كاذبًا، أعلمُ أنَّ الطرفَ الثالثَ لا إنصافَ يُحقُّ الحقَّ لمشاعرِه، ولا مُسَاواةً يحصل عليها، بل تتراكم أكوام التبريرات والتي لن تُجدي نفعاً، كشاةٍ جَرْبَاء وُسِمَتْ بأقبح العبارات -"مُضغة"- قد أكُون حُشِرت بإرادتي، وقد أكون انسقتُ دون عِلمي كقطعةِ لحمٍ بين شَطْرَيْ خُبزة، يَحرقُني أنَّي شخصٌ غير مرئي، لا يشعُرُ بوجودي أحد، أحترقُ ككتلةِ لهب. أتعلمينَ أنَّ سعادةً غبيةً تسلَّلت إلى نفسي حين اتصلتِ بي، لقد شَعُرتُ أنَّني أخرج من الظل".
سألتُها: "هل احترقَ ثوبُك يوماً؟".
أجابتْ: "نعم".
- "وهل أذابت نتُوءَ الجليد البارزة فوق غَشَاوة قلبك؟".
-المُضغة: "نعم".
- "وهل وَطأتْ أخفافُ المَارَّةِ رأسَك، ثم أدرك أحدُهم أنَّه يمشي على مُضغَةِ قلبك؟".
قالتْ: "نعم".
إذن، حانَ الوقتُ لتحملي قلبك وتحفظيه في مَجْمَدة، وإنْ استطعتِ إرسالَه في طَرْدٍ مُغلق إلى القُطب الجنوبي فليكن ذاك إذن.
قُلتُ لها: "إنكِ الحلقة الأضعف والعجلة الثالثة، لا يوجد مُسمى آخر.. الأحلام مُحرَّمة عليك، وأنتِ أفضلُ حالاً من كل هذا، أفضل مِني زوجة تتجرَّع مَرَارَات الخيانة وأغضُّ الطرفَ عنها، أسهرُ الليالي المُوجِعة وأدَّعِي الأرق، لديَّ أبناءٌ ولا أريدُ نيل شَرَفِ لقبِ مُطلَّقة".