عائشة السريحية
ولد اليوم طفل اختلف عن بقية الأطفال الذين سبقوه في مدينتنا، لقد أصبح ميلاده علامة فارقة ستظل بعد مماتي مدة طويلة، طفل ولد بهالة مُشعة وبراقة تضيء المكان لشدة طهارتها وبراءتها، ليس عجيباً أن تكون له هالة فالجميع يمتلكون واحدة في مدينتي، لكنه اختلف عنهم جميعًا.
الهالة التي أحاطت به أثارت إعجاب الجميع، كان دفء ابتسامة أمه يتسابق مع ذراعي القابلة التي مدتهما لتعيد الصغير لأمه، هالة القابلة لم تعد كما كانت في السابق فقد التهمها القهر وعناء المعيشة، الأم هالتها تبدد منها قوسها المنحني على جوانب كتفيها، وباتت شاحبة فقدت رونقها منذ أن عرفت أنَّ زوجها تزوج بأخرى في السر.
الابنة الكبرى بمنزل جارهم تجر قدميها وقد ولدت شقوق في هالتها أعمق مما كانت عليه، لقد هجرها من كانت ترتقب وصوله لمنزلهم. آخر قادم من بعيد يبدو كبقايا إنسان يترنح متكئاً على ما تبقى له من هالته، فقد أمضى حياته في دفع ديونه ليخلص أبناءه من جشع أحد ملاك المباني السكنية.
من الصعب جدًا في تلك المدينة أن تُحافظ على هالتك كما كانت عليه في الصغر. لكن في دكاني الصغير استطعت أن أصلح الهالات وأطببها فتارة أضع عليها غراء شفافاً يدوم شهرا أو شهرين وتارة أقوم بطلائها لخلق خدعة بصرية، وتارة أتوسط لحل الخلافات كي لا تتسع شقوق هالاتهم، فقد كان الناس يتزاحمون على دكاني ولا أجد وقتاً لإصلاح هالتي.
وفي يوم جاءت هذه الأم تلف رضيعها والحزن ارتسم بشقوق طولية واضحة على هالتها، تشكو ماحدث لوليدها بعد ولادته، وكأنه شمس اختطفت من وضح النهار.
أعي جيدًا أن الآلام والجروح المرتبطة بالمشاعر تسبب ضررا بهالات الناس، ولكن أن تختفي هكذا من مولود فالأمر يحتاج لبحث طويل، لم أجد حينها تفسيرا لذلك، ولكن حين تكرر الأمر مع مواليد آخرين، خيم القلق واجتمع سكان المدينة، بعد أن غلف أروقتها الجزع، المواليد يفقدون هالاتهم والأهالي ينتفضون ذعرا، المقولة القديمة التي توارثها سكان المدينة تقول:"يموت المرء حين يفقد هالته".
السؤال الوحيد هو كيف تختفي هالات مواليد لم يجربوا الحياة بعد؟ وحين أصبحت حياة مواليدهم في خطر، أعلن حاكم المدينة عن حاجتهم لمتبرعين بأجزاء من هالاتهم، لإنقاذ الأرواح الجديدة.
النساء الحوامل بدأن بالنياح فهنَّ على وشك إنجاب أطفال بلا هالات، وكم سيكفي من الوقت لمنحهن هالات متبرع بها، كان عليَّ أن أعمل بشكل مضاعف فاجتزاء هالة هو أمر صعب جدًا، والأصعب أنه بعد نقلها تحمل كل ذكريات صاحبها، أنقذنا المواليد، لكن بهالات مثخنة بالجراح، اكتسى الحزن المدينة فستخسر الكثير من أعمارها، ويالها من شجاعة تلك التي تجعل المرء يتبرع بجزء من عمره لإحياء روح أخرى، استمر الوضع طويلا وكلما جاء مولود تقدم آخرون للتبرع، ولكن الوضع سيسوء أكثر وسيموت سكان المدينة إن استمر الحال على ماهو عليه.
عقد اجتماع طارئ والتف القوم حول الطاولات الدائرية، وأحصوا المواليد والوفيات، أرادوا مني أن أتحدث لعلي أجد لهم حلاً فمن يرقع شقوق هالاتهم غيري! اقترحت أن يعالجوا أسباب تهالك الهالات، وأن يحاربوا المرض الذي انتقل من هالاتهم لهالات المواليد فأصابها بالمرض، لطالما ناديت بهذا الأمر لكني لم أجدهم مصغين كما يفعلون الآن ويالها من مُفارقة!
بدأوا بحصر الأمراض التي تصيب الهالات وتدمرها، وتحدث الناطق الرسمي بعد اجتماع دام أسبوع: نعلن اليوم عن محاربة آفات الهالات كي يعيش مواليدنا دون أن نجتزء لهم من حيواتنا، وقررنا محاربة الظلم والطغيان، والطمع والجشع، والغرور والتسلق، والغيرة والنفاق، والأنانية والحسد، والكذب والخداع، والبخل والجهل، والافتراء والبهتان، البغض والكراهية، الحقد والخيانة، السخرية والتنمر، الشك وسوء الظن، الغش والغدر، الفاحشة والفجور، المكر والكيد، النميمة والفتنة.
وهزَّ الجميع رؤوسهم بالموافقة وعلا التصفيق والهتاف، وعادوا لمنازلهم يشعرون بالطمأنينة والرضا.
وبعد عدة أعوام، اختفت المدينة واختفى السكان واختفت الآفات، ولم يبق منها سوى هالة واحدة يملؤها الطلاء، والغراء، وباتت على وشك الانهيار في دكان كان يوماً ما مزاراً لآلاف الزائرين.