تناقضات مجتمعية وانعكاسات سلبية

 

راشد بن سباع الغافري

سألني أحدهم يومًا: هل تعلم أهم سبب لأمراض أبنائنا النفسية؟! مواصلا حديثه بالإجابة: إن أهم أسبابها أن كثيرًا منهم يسمع منِّا شيئًا ويرى في الواقع شيئًا آخر!

يومها أسهب في ضرب الأمثلة من واقع حياة المجتمع للتدليل على صحة ما يقول. وعندما أتذكر ذلك الموقف وأسقطه على واقع المجتمع اليوم يتأكد لي أكثر وأكثر مصداقية ما طرحه. فخلال السنوات الماضية خرجت علينا عدد من التصريحات المدغدغة لعواطف الناس فيما يتعلق بمعيشتهم، مثل الرواتب الخيالية وعيشة الرفاهية، بينما وجد أفراد المجتمع أنفسهم في مواجهة غلاء الأسعار، وضعف الرواتب، وتعدد الضرائب، وأصبح كثيرٌ منهم يكابد الأمرّين من أجل توفير الحد الأدنى للعيش الكريم.

وكانت هناك تصريحات أخرى تتعلق بالأمان الوظيفي، وتوفير فرص العمل، وتقنين سيطرة العامل الوافد، بينما أمسى كثير من الناس في مُواجهة البحث المضني عن فرصة عمل، وفي مواجهة التسريح الممنهج، وفي الشعور بالغبن بسبب تصرفات بعض الوافدين المتنفذين في كثير من الأعمال. وعلى إثر ذلك، ظهرت مشاهد نادرًا ما كُنا نراها في السابق، حيث بتنا نرى كثيرًا من النساء والأطفال صغارًا وكبارًا يخرجون للشارع ليلًا ونهارًا لبيع ما تيسر من أجل كسب قوت يومهم، في مشاهد تدمي القلب أحيانًا، لأنَّ ذلك يحدث في مُجتمع لا يتعدى تعداد مواطنيه الثلاثة ملايين نسمة، وينعم بخيرات وفيرة في البر والبحر، والسهل والجبل، وفي باطن الأرض وعلى سطحها.

مجتمع ينام ويصحو على أخبار افتتاح عدد من المشاريع أو على وضع حجر الأساس لأخرى، وتمضي السنون والأيام فيدرك أن بعض صور الافتتاح وصور التدشين كانت أكبر وأكثر شهرة من المشاريع نفسها والتي ظهرت بخلاف ما كان يؤمل منها ويرتجي!!

مجتمع رسالته تحث على طلب العلم وكسب المعارف ونيل الشهادات العُليا، وتُبنى في سبيل تحقيق ذلك المعاهد والجامعات والكليات، وما إن ينتهي أبناؤه من تحصيلهم الأكاديمي وتفوقهم العلمي بعد سنين عدة، وجهود مضنية، ومصاريف مُرهقة ، حتى يجد البعض منهم أنفسهم بلا وظيفة، وإن وجدوها يتساوى راتبها مع راتب من لم يُواصل تعليمه، فبات بعض الشباب يختصر سنين العلم في الالتحاق بأقرب وظيفة ممكنة بعد حصوله على دبلوم التعليم العام، ويظهر وكأنه اتخذ القرار الصحيح، فهو يستطيع خلال تلك المدة أن يكوّن نفسه بخلاف ذلك الذي التزم مواصلة الدراسة للحصول على شهادة أعلى.

مجتمع يُحاسب فيه صاحب الفعل البسيط ويُشهّر به "مثال عدم ارتداء الكمامة"، بينما يُراعى في بعض الأحيان صاحب الفساد الكبير ويُستر عليه، في شرح حضاريّ وتطبيق عمليّ لحديث "إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". حتى بات كثير من أفراد هذا المجتمع يُقارن الوضع مع دول أخرى أصبحت أكثر حزمًا وجديّة لقطع دابر الفساد بدلًا من مداراته، وصاروا يطالبون بذات الأمر في كثير من مناشداتهم.

مُجتمع يُجرِّم قانونه خدش الحياء وانتهاك الحرمات والآداب العامة، بينما يُقدم ذلك الخدش طواعية في صورة إعلانات ولقطات ترويجية لمواد تجارية كالملابس الداخلية وأدوات التجميل، ودعوة فرق السيرك غير المُحتشمة، وأعمال السحرة، ويُروج ذلك الخدش في كثير من الأفلام والأغاني وقاعات السينما التي باتت تعرض كل ما هو رخيص دونما تجريم أو تغريم في تناقض واضح بين ما يُسن وبين ما يُعرض!!

وهناك تناقض كبير في رعاية حقوق الطفل وحفظ كرامته التي تدعو إليها تشريعات المُجتمع، بينما في الواقع يقدم لذلك الطفل جهارًا نهارًا الكثير من الألعاب وأدوات الدراسة والرسوم المرئية التي تحتوي على إيحاءات لا تتناسب وبراءة تلك الطفولة وتدفع بها نحو فساد الفكر والخلق والعقيدة، دونما محاسبة لمن يتسبب بذلك.

هناك الكثير من التناقضات التي بتنا نتعايش معها سواء بإرادتنا أو بخلاف ذلك، وهي بلا شك تؤثر سلبًا على صحتنا النفسية، وعلى صفاء تفكيرنا، ويُحاول أن يدفعنا كثير منها نحو هاوية التسليم المراد أن يكون لحرف هذا المجتمع عن قيمه وعاداته والنهج الذي ورثه عن أجداده.

مُجتمع ينادي بحريّة الرأي والمشاركة في صنع القرار، بينما يطرح أفراده آراءهم ووجهات نظرهم في وسائل الإعلام ووسائل التواصل وقلّما يؤخذ بها، حتى تفاقمت كثير من مشاكل هذا المجتمع بسبب ذلك التعنت والتفرّد في القرار الذي لا يُراجع ولا يُستشار فيه!

فعلى ماذا يُراهن البعض من وراء هذه التناقضات؟ سؤال يُحيرني ويُثيرني دائمًا لطرحه على من يهمه أمر هذا المجتمع؟! فقد اُختِبر صبر هذا المجتمع في معيشته فأثبت أنه يملك صبر أيوب على ابتلائه، وصبر يوسف على كيد إخوته. واختُبر في وطنيته، فأثبت حبه لوطنه، وولائه لسلطانه -حفظه الله-، ووفائه لسلطانه الراحل -رحمه الله-. كما اختُبر في عدد من الظواهر الشّاذة التي دعت أبناءه إلى الانحلال في خلقهم وعقيدتهم ولكنه أثبت للعالم أجمع أنَّه ثابت على مبادئه، متمسك بثوابته، وأنه موقنٌ بحضارة هويّته ولن يحيد عنها.

يأتي كل ذلك رغم شظف العيش وشح الوظائف، وكثرة الضرائب، ومحاكمات الديون الناتجة عن التسريح، ويأتي رغم كثير من التناقضات التي تتلاعب بمشاعر أفراده ومعيشتهم.. مجتمع أثبت قدرته على التكيّف مع كثير من الظروف الضاغطة حتى لا ينساق أفراده إلى أمراض نفسية تعرقل حياته التي ينشدها، وهو يسعى لإثبات جدارته في كل المجالات .

أفلا يستحق هذا المجتمع توجهًا جريئًا لتحسين وضعه والابتعاد به عن كل التناقضات التي تؤثر عليه سلبًا؟!

ختامًا.. هذه الأمثلة من التناقضات المجتمعية قد لا تكون هي كل شيء، لكنها بالتأكيد تحتاج إلى من يتقصاها لوضع العلاج المناسب لها حتى تزول من واقع هذا المجتمع؛ ليستطيع أن يستبشر بمستقبل واعد؟!

تعليق عبر الفيس بوك