عبدالعزيز بوتفليقة.. الرجل الظاهرة

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

 

في صائفة عام 1986 التقيتُ لأوَّل مرة بالمُناضل عبدالعزيز بوتفليقة- رحمه الله- أو كما يُعرف بـ"سي عبدالقادر" الاسم الحركي له خلال فترة النضال ضد الاحتلال الفرنسي، وكان اللقاء بمنزل صديق دبلوماسي خليجي، أثناء عملي بسفارة السلطنة بالجزائر.

وحين هاتفني صديقي الخليجي وذكر لي وجود المُناضل بوتفليقة بمنزله خرجت مُسرعًا من منزلي قاصدًا منزل صديقي ومستحضرًا خلال دقائق المسافة صورة بوتفليقة الشاب الوسيم الذي كان أصغر وزير في تاريخ الجزائر (25 عامًا) للشباب بُعيد عام الاستقلال 1963، ثم وزيرًا للخارجية بين عامي 1965 و1979. حين وصولي صُدمت برؤية شخص نحيل الجسد وقصير القامة وعلى وجهه تقاسيم مُعاناة زمن طويل من التَّنكر والإنكار له وكأنَّه عهد انقضى لا يريد البعض تذكره أو عودته إلى الجمهورية الثالثة بزعامة الرئيس الشاذلي بن جديد. بوتفليقة كان العقل المُدبر لزمن الزعيم هواري بومدين والرجل الثاني بعده في الدولة الجزائرية، وكان وما زال اللغز التاريخي للعلاقة الحميمة والقوية بينه وبين الزعيم بومدين؛ حيث بقي سر هذه العلاقة بينهما غامضًا ورحل معهما.

في العام الذي التقيت فيه المناضل بوتفليقة كان قد رُد له الاعتبار وسُمح له بالعودة إلى بلده الجزائر ومُنح صفة وزير سابق في الامتيازات المالية والبروتوكولية. وبقي تواصلي معه باللقاءات المُباشرة والاتصال الهاتفي لغاية عام 1999، وهو عام استلامه العُهدة الأولى من رئاسته للجزائر.

أطول مُدة قضيناها معًا كانت أثناء زيارته الخاصة لدولة قطر عام 1995؛ حيث كنَّا نلتقي يوميًا طيلة الأيام العشرة التي قضاها ضيفًا على قطر؛ إذ تربطه علاقات صداقة قوية مع الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني حاكم قطر السابق وأبناء الشيخ سحيم بن حمد آل ثاني وزير خارجية قطر الأسبق.

بوفاة الزعيم هواري بومدين في 27 ديسمبر 1978، تيتَّم بوتفليقة يُتمًا حقيقيًا، وفقد سنده وعضيده وجاهه وبريقه، ويتذكر الجزائريون كلمة التأبين التي ألقاها نيابة عن الحكومة والدولة الجزائرية في رثاء بومدين؛ حيث وصفت تلك الكلمة بأنها رثاء وفاة لبومدين وبوتفليقة معًا؛ حيث غادر الأول الحياة وسيُغادر الثاني الجاه والنفوذ.

تمَّت محاكمة عُهدة الزعيم بومدين من قبل خصومه في توأمه الروحي والسياسي بوتفليقة؛ حيث تم الاتفاق حينها من قبل رجال المؤسسة العسكرية الأقوياء وعلى رأسهم العقيد قاصدي مرباح رئيس المخابرات العسكرية والأب الروحي لجهاز المخابرات الجزائرية، على تنصيب أقدم قائد عسكري وإغلاق الباب أمام بوتفليقة لنفوذه الحاد في العهد البومديني، وكذلك العقيد العروبي محمد الصالح يحياوي الأب الروحي وذو الفضل الأول في تعريب المؤسسة العسكرية الجزائرية، ولغاية هذا اليوم، ومؤسس وأول آمر لأكاديمية شرشال للعلوم العسكرية.

وقع الاختيار على العقيد الشاذلي بن جديد لرئاسة الجزائر، ويتذكر رجال الدولة الجزائرية ممن حضروا تنصيب الرئيس الشاذلي الكلمة التي ألقاها فيهم العقيد قاصدي مرباح قبيل التنصيب بخصوص المرشحين الثلاثة للرئاسة؛ حيث نصت كلمته على العبارة التاريخية التالية: المرشح الأول للرئاسة هو الشاذلي بن جديد، والمرشح الثاني للرئاسة هو الشاذلي بن جديد، والمرشح الثالث للرئاسة هو الشاذلي بن جديد!!

غادر بوتفليقة الجزائر بعد تيقنه بأنَّ لكل زمان دولة ورجال، وبقي متنقلًا في بلاد الله الواسعة، مُقلبًا دفتر صداقاته وعلاقاته والتي لم يصمد منها سوى التيار "الرجعي" على حد وصف وتصنيف اليسار والاشتراكيين العرب؛ حيث لم يجد بوتفليقة سندًا له سوى نظرائه في أقطار الخليج من أمثال الشيخ سحيم بن حمد ومعالي أحمد خليفة السويدي وزير خارجية الإمارات الأسبق وبعض الأشخاص هنا وهناك.

ورغم العلاقة الحميمة اللغز بين بومدين وبوتفليقة، إلا أنها لم تكن علاقة وردية دائمًا، فقد كانت بينهما خلافات ترقى للاختلاف والتباعد لأيام وشهور أحيانًا، ولكن سرعان ما تعود المياه إلى مجاريها. فأثناء مفاوضات قادة جبهة التحرير الجزائرية مع المحتل الفرنسي وحين بلغت درجة متقدمة، أوفد قادة الثورة بوتفليقة إلى فرنسا ولقاء القادة السجناء بها، وعلى رأسهم بن بيلا ومحمد بوضياف وحسين آيت أحمد، وكان ضمن مهمته كذلك إطلاعهم على سير المفاوضات مع فرنسا واقتراح مرشح منهم للرئاسة، وحين همَّ بوتفليقة بالخروج من القاعة لبدء مهمته همس بومدين في أذنه قائلًا: رشح بوضياف للرئاسة، وبعد عودة بوتفليقة من مُهمته فوجئ بومدين بترشيح بوتفليقة لأحمد بن بيلا، والذي لم يكن بومدين يرتاح له، فنظر بومدين لبوتفليقة نظرته الحادة المعروفة وخرج من الاجتماع وقاطع الحديث مع بوتفليقة لأيام طويلة؛ حيث اعتبره وكأنَّه غدر به وأخل بوعده.

من أشهر إنجازات بوتفليقة كوزير خارجية هو رئاسته للدورة 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، وسماحه للقائد ياسر عرفات بإلقاء كلمة فلسطين والتعريف بالقضية من على هذا المنبر الأممي المُهم. وبعد هذا الإنجاز التاريخي المهم ونتيجة خلاف حاد مع الرئيس بومدين غادر بوتفليقة نيويورك إلى هافانا العاصمة الكوبية، ولم يعد للجزائر؛ حيث بقي في ضيافة صديقه الزعيم فيديل كاسترو لثلاثة أشهر تقريبًا خصص منها كاسترو شهرًا واحدًا في جزيرة كوبية نائية تحوي ضيافة للمكتب السياسي الكوبي؛ حيث بقيا وحيدين طيلة شهر كامل، وفي الختام نجح الزعيم كاسترو في حل الخلاف بين صديقيه وعاد بوتفليقة للجزائر.

يُمكنني وصف العلاقة بين بومدين وبوتفليقة بأنها علاقة تحالف القوة مع العقل؛ حيث يتمتع الزعيم بومدين بكاريزما شخصية قوية ومهابة، فيما يتمتع بوتفليقة بدهاء حاد، مكّنه من تجنب الصدام أو خوض معارك خاسرة؛ حيث كان يحتوي الخصوم ويتحايل على الظروف غير المواتية، ثم يُعيد الانتصار لنفسه في ظروف تخدم مصالحه وتحقق غاياته.

رحم الله بوتفليقة الذي أحب الجزائر حتى الثمالة.

قبل اللقاء.. هناك رجال يشبهون الوطن يفنون كالأهلة كي تنساب سيرهم أقمارًا، فبوتفليقة غامض كالجزائر والتي لا يمكن فهمها من الداخل إلا بالخروج منها ومراقبتها عن بُعد، وبوتفليقة سيبقى لغزًا تنفك حلقاته تباعًا بعد رحيله.

وبالشكر تدوم النعم.