السارق

 

عبدالله الفارسي

 

أجمل ما في حكايات الطفولة هو صدقها وبراءتها وخبثها أيضاً، وهذه القصة نموذج لخبث الطفولة وشقاوتها.

كان لديَّ صديق يكبرني بسنتين لأنه رسب في الصف الخامس مرة وفي الصف السادس على التوالي فلحقت به في الصف الأول الإعدادي (السابع)، ومن هناك عرفته وتوثقت علاقتي به.

اسمه ناصر، ولد طيب جدًا وساذج للغاية ويتمتع بنسبة غباء عالية جدًا وهذا هو السر في احتفاظه بصحته وقوته وشبابه حتى اليوم. الأغبياء والحمقى غالباً هم أكثر تمتعاً بالصحة والعافية من غيرهم فليس هناك ما يحرق جهازهم العصبي أو يدمره لأنهم لا يستوعبون ولا يدركون ما يدور حولهم.

ذات مرة أخبرني بأنَّه يحب فتاة من فتيات الحارة المجاورة لهم.. فتاة أسرت قلبه وهيجت أشجانه. وأنها دائمًا تبادله تلك الابتسامة الرقيقة القاتلة وتهديه تلك النظرات الخبيثة العاشقة الماكرة.

فمرة قرر أن يُكلمها على عجل ومن وراء عيون صديقاتها فرفضت وقالت له: "اكتب لي رسالة". فجاءني ناصر يطلب النجدة والمُساعدة كيف سيكتب رسالة لحبيبته وهو لا يعرف أن يكتب اسمه الثلاثي. فقلت له لا تقلق أبدًا ياصديقي.. غدًا ستكون الرسالة معك مطرزة بكل كلمات الحب والعشق والهيام.

وكما وعدته سطرت له رسالة عذبة ندية ورسمت له لوحة حب رائعة بهية أشعلت قلب الفتاة وهيجت مشاعرها الطرية وعصفت بأجنحتها الخفيفة فطار قلبها وأرتعش فؤادها. فبادلته حبيبته برسالة مثلها.. ولكن ناصر لا يعرف أن يفك خط الكتاب المدرسي فكيف سيفك حروف قلم حبيبته الصغير والقبيح.. فطلب مساعدتي لأقرأ له رسائل حبيبته. وهكذا ظللت أكتب الرسالة تلو الرسالة وأقرأ له ردود الفتاة وجواباتها.

وذات نهار أراد ناصر أن يرى حبيبته فأخذني معه إلى الحارة المجاورة لحارتنا ورأى فتاته. وشاهدنا الفتاة عن كثب فرمقتني بنظرات لاسعة ثاقبة أطلقتها من عينين جميلتين ماكرتين.

وبعد هذه الحادثة بأسبوع كنت ماراً من حارتهم فرأتني حبيبة ناصر ونادت عليّ. مسكتني وأخذتني على جانب الجدار القريب منِّا وسألتني: هل أنت من تكتب الرسائل لناصر؟ فوجمت ملتصقاً بالجدار ولم أحر جوابًا.

فأعادت السؤال بطريقة رقيقة مضافاً إليه هذه المرة رقة ودلال: أرجوك ارح قلبي من يكتب تلك الرسائل العذبة الرقيقة لناصر؟ هنا أضطررت أن أعترف لها بأنني أنا كاتب الرسائل.

فأهدتني قبلة سريعة عنيفة حارقة وقالت: "لا تقطع عني رسائلك اللذيذة" وتركتني في دهشة وحيرة وذهول وشرود وجمود حتى أنني لم أعرف الطريق إلى حارتنا هل باتجاه الغرب أم من جهة الشرق.

وقفت دقائق أتحرى الاتجاه الصحيح لحارتنا حتى عرفته بعد أن عاد إليَّ صوابي!!

استمرت المُراسلات بين ناصر وحبيبته المُتوهمة، لكن اختلف الوضع فكانت البنت توجه رسائلها وكلماتها لي أنا وتشير بملاحظة في آخر الرسالة إلى "أن الرسالة لي أنا وليست لناصر"، ولم أخبر ناصر بذلك كما لم اعترف له بأن بوصلة قلب حبيبته اتَّجهت نحوي وأصبحت ملكي وأنني أنا حبيبها الآن!

ظل ناصر مراسلاً مخلصاً وساعي بريد وفيا لنا، يوصل رسائل عشقنا وكلماتنا وبوح ومشاعرنا حتى أكتشف أمرنا، وفضحتنا أخته، حين جاء ذات نهار ليبحث عني حاملًا رسالة من حبيبته المتوهمة لأقرأها له ولم يجدني فاعطاها لأخته لتقرأها فأخبرته أخته بأنَّ هذه الرسالة ليست لك وإنما لـ"عبدالله".

وفي نفس عصر اليوم جاءني غاضبًا مشتعلًا، عيناه تطلقان شررًا ككتلة من اللهب وصرخ في وجهي: أيها السارق اللعين الجبان لقد سرقت مني قلب حبيبتي.

فقلت له: يا صديقي القلوب لا تُسرق.. هي تختار بنفسها.. هي كالطير تطير وتحط أينما تشتهي وتختار.

ظللنا أنا والفتاة نتراسل عدة أشهر.

كانت تكافئني بضمة دافئة وقبلة شهية بعد كل ثلاث أو أربع رسائل، ثم حرمت من تلك القبلات فجأة.. ولم أتمكن من التسلل إلى حارتها بعد أن جنَّد صديقي ناصر مجموعة من الجواسيس والعسس للإبلاغ عني في حالة دخولي الحارة أو تسكعي هناك، ووصلني أنّه أقسم أن يكسر ساقي إذا ضبطني متلبسًا متسكعًا في حارة حبيبته.. فأضطررتُ أن أضحي بالقبلة الشهرية اللذيذة حرصًا على ساقي من الكسر وامتنعت نهائيًا من الذهاب إلى هناك.

لم أسمع عنها شيئًا أبدًا بعد ذلك.. لعلها اصطادت عصفورًا جميلًا آخر ووضعته في قفصها وأحاطته بعينيها الجميلتين الماكرتين.

ما زال ناصر حتى اليوم يكرهني جدًا ويُطلق عليّ "السارق" أي "سارق قلب حبيبته".. رغم أنَّ حبيبتنا الجميلة الماكرة تزوجت وأصبح لديها بعلًا ضخمًا وأنجبت منه سبعة من البنين والبنات.