د. محمد بن عوض المشيخي
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
الإعلام الصادق هو رسول السلام وضمير الأمة ومعلم الأجيال بلا مُنازع، وكاشف المستور عن التجاوزات والفضائح التي يرتكبها المتنفذون من القادة والحكام المستبدين والفاسدين الذين سال لعابهم لكسب المال الحرام في هذا العالم؛ من هنا تعددت مهام ووظائف وسائل الإعلام في المجتمعات المعاصرة، فتقوم هذه الوسائل بتنوير أفراد المجتمع بمختلف القضايا المحيطة بهم من أجل التعريف بالفرص المتاحة والتحذير من المخاطر المحدقة بالناس، فهي تقوم هنا بدور المراقب للسلطات الثلاثة في أي مجتمع ديمقراطي، والمفسر والمحلل للأحداث التي تهم الرأي العام.
فالإعلام يعتمد في أداء رسالته على ما يعرف بالتنظير الإعلامي وتطبيقات تلك النظريات التي تدرس لطلبة الصحافة في مختلف الجامعات؛ والتي ظهرت في أوروبا وأمريكا بالمجمل. وتعد نظرية "الرصاصة الإعلامية" التي ظهرت في الولايات المتحدة في العقود الأولى من القرن الفائت خلال الكساد الاقتصادي بعد الحرب العالمية الأولى، واحدة من النظريات غير المنطقية في تفسيرها للعلاقة بين المضامين والرسائل الإعلامية وبين الجمهور الذي يستقبل ويستوعب تلك الرسائل، ذلك لكون هذه النظرية "تفترض أنّ وسائل الإعلام والاتصال تؤثّر بشكل مباشر وسريع في الجمهور، وأنّ استجابة الجمهور للرسائل تكون مثل رصاصة البندقية تؤثّر بشكل سريع ومباشر بعد انطلاقها"، فإذا كانت هذه النظرية قد عفا عليها الزمن واختفت من حيث الممارسة والتطبيق الحقيقي في موطنها الأصلي في الغرب واستبدلت بدراسات علمية أقرب للواقع، فنجدها تطبق بحذافيرها وعلاتها، وبمنهجية كاملة في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة على حدٍ سواء في بلاد العرب، خاصة تلك الوسائل المملوكة للدولة أو التي يتم تمويلها من الحكومات العربية ورجال الأعمال العرب.
الغريب في الأمر أنَّ القائمين على هذه الوسائل من الإعلاميين يدركون جيدًا أنَّ برامجهم وخطابهم الإعلامي غير مقبول من الناس ويفتقد للمصداقية، ولا تحقق برامجهم التلفزيونية الأهداف المرجوة من الذين يدفعون لها الأموال وينطبق عليهم المثال القائل كالذي يحرث في البحر. هذه الوسائل الدعائية تنظر بعين واحدة فقط هي عين المسؤول الذي يُحاول أن يُلمِّع إنجازاته الوهمية من خلال الخطاب الدعائي المكشوف للجميع. لقد جندت الحكومات العربية جيوشًا من "المُطبِّلين" والأقلام في مختلف المنابر الدعائية التي يجب ألا نطلق عليها اسم وسائل إعلام أو الذين ينتسبون لها بـ"الإعلاميين"؛ لكون أن الإعلام يجب أن يكون صادقًا وبعيدًا عن الدعاية السوداء التي تحاول جاهدة تضليل العقول وتلوين الحقائق.
إنَّ هذه الوسائل التي تحولت إلى أبواق رمادية، وتمارس التنظير المُضلِّل لا يُمكن أن يكتب لخطابها النجاح والتوفيق بأي حال من الأحوال. وقد أدرك القائمون على وسائل الإعلام في الغرب أهمية المصداقية الإعلامية في كسب عقول الناس وقلوبهم، ليس حبًا في الصدق؛ بل لمعرفتهم بالمستوى المطلوب لتمرير الكذب عند الضرورة من خلال الرسائل والمضامين الدعائية التي تقدم للجمهور على أنها خطاب إعلامي صادق. من هنا ظهرت نظرية ما يعرف (بكيمياء الكذب) التي تشترط تمرير 95% من الرسائل والأخبار الصادقة أولاً بهدف كسب ثقة النَّاس، ثم بعد ذلك يمكن بث مضامين ورسائل مضللة وكاذبة عند الحاجة دون اكتشاف ذلك من الجمهور الذي تعود على المصداقية من تلك الوسائل. وقد طبقت الإذاعات الدولية الموجهة للعالم العربي نظرية كيمياء الكذب خاصة إذاعة لندن الناطقة باللغة العربية، بينما كانت وما زالت وسائل الإعلام العربية تعرض خطابًا إعلاميًا يقوم على نظرية الرصاصة أو ما يُعرف بـ"حقنة تحت الجلد" التي تشبِّه انتقال الأفكار من الإعلام إلى الجمهور كالرصاص أو الحقنة المخدرة التي تسيطر بالكامل على قناعات الناس وعقولهم باعتبار أن الجمهور اعزل ولا يستطيع تجنب مضامين البرامج التي يتلقاها بشكل يومي.
صحيح استطاعت قناة الجزيرة القطرية- مثلًا- تحريك المياه الراكدة في الإعلام العربي الذي يعيش في اغتراب وبُعد عن الواقع، وذلك باتباع هذه الشبكة نموذج تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" في اعتماد مستوى عالٍ من المصداقية لكسب المُشاهدين أولًا ثم يمكن لها تمرير رسائل علاقات عامة أو ما يُعرف بالدعائية البيضاء التي تقوم على كشف وإظهار نصف الحقيقة؛ أي إبراز إيجابيات الجهات التي تنفق على القناة وتجنب كشف سلبياتها إن وُجدت.
لقد ظهرت لاحقًا نظريات إعلامية كثيرة توضح قدرة الناس على تفريق بين الخطاب الصادق والمزيف؛ إذ ظهر ما يعرف بـ"الجمهور العنيد"، الذي يقرر ماذا يقرأ ويستمع ويشاهد وكيف يتجاهل الخطاب المضلل والكاذب.
وعلى الرغم من ذلك، دفع الإنسان العربي لفترة طويلة- وما زال- أثمانًا باهظة، بسبب التضليل الإعلامي الذي يسود الخطاب الإعلامي الغربي بمختلف وسائله، فالوكالات الدولية الغربية والصحف الكبرى ذات الطابع الدولي التي تصدر في عواصم صنع القرار والشبكات التلفزيونية العابرة للقارات؛ تملك جيوشًا من المراسلين ينتشرون في كل ركن من أركان الكرة الأرضية؛ مما جعلها تسيطر على أكثر من 90% من مصادر الأخبار المتداولة في العالم، ونتيجة لهذا التفوق المعلوماتي تقوم هذه الوسائل بممارسة الإرهاب الإعلامي، وذلك من خلال استخدام المصطلحات المضللة، وغرس المفاهيم الخاطئة التي يحرص الإعلام الدولي الموجه على غرسها في عقول وأذهان الملايين من البشر، خاصة في أوروبا وأمريكا؛ فالإرهاب أصبح مرادفا للإنسان المسلم، فالمدافع عن حقوقه وأرضه المغتصبة يطلق عليه "متطرف وأصولي".
وهكذا ساعد الغياب الكلي للعرب من الفضاء العالمي (باستثناء قناة الجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية) على وجود خطاب إعلامي أحادي الجانب، ينظر للقضايا العربية بعيون المنظمات الصهيونية التي تعمل على تزييف الحقائق وتلوينها منذ عقود طويلة.
لا شك أن كان هناك إمكانية لتضليل الناس وخداعهم قبل ظهور الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي، خاصة إذا عرفنا أن نظرية "دوامة الصمت" التي تأكد على أهمية وسيطرة وسائل الإعلام على المشهد الإعلامي بلا منافس ومحاصرة الجمهور من خلال هيمنتها على مصادر المعلومات، كذلك تجانس وتشابه العاملين في وسائل الإعلام بسبب القيم والخلفيات العلمية والتدريب، مما ينعكس على المحتوى الإعلامي الذي يقدم في الرسائل الإعلامية.
وفي الختام.. نسجل تحية وتقديرًا للشرفاء من المؤسسين والقائمين على وسائل الإعلام في هذا البلد العزيز، وخاصة الصحافة الذين أفنوا أعمارهم وضحوا بأموالهم في سبيل حرية التعبير على الرغم من تعرضهم في بعض الأحيان لحُراس البوابات الإعلامية الذين تم وضعهم لمصادرة الفكر وتحجيم حرية الإعلام. من هنا ومن على هذا المنبر ندعو إلى التعجيل بإصدار قانون الإعلام المنتظر؛ لكي يتوافق مع النظام الأساسي للدولة، الذي صدر مطلع هذا العام، وتقوم الصحافة بدورها الريادي في الكشف عن التجاوزات والمخالفات التي قد تحدث من البعض في ظل تراجع دور الإعلام الحكومي وبعده عن الملفات الساخنة التي تهم الوطن والمواطن.