وَعدٌ.. لن أسلم رقبتي لغيري!

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

أخجلُ من الناس ورَدِّهم، فيتعطشون أكثر لِمَا في رأسي ويدي.. أغُوصُ أنا وأنت في الخجل من رفض طلباتهم أكثر مما ينبغي؛ فنتحمل وزرَ لوم وعَتَب من به استغلالنا، وهكذا دواليك نَزرُ الوازرة وزر الأخرى.

قالتها لي جدَّتي حين كنت طفلة، ولكنِّي لم أعِ مُرادها: "لا تسلِّمي رقبتك للناس"، كنت أضحكُ وأسخر؛ إذ كيف لعنقي أن يتمطَّط ويُسلَّم لغيري.. هل هذا يعني أن أمشي بلا رأس! كم كانت سخيفة أفكار الطفولة، ليتني وَعِيتُها قبل عضِّ أصابع الندمِ.

سأقتبس ظاهر أفكار الطفولة، ولكن بعقلية النُّضج الحالية، لأقول نعم، اكتشفتُ أنني قد أمشي وعنقي ملتوٍ، أو متدلٍّ، بل وأن أمسك رأسي براحة كفِّي معروضةً لكل من يريد ما بداخلها.. وهنا من الضَّروري التنبيه إلى عدم الخلط بين قضاء حوائج الناس وبين قضاء حاجات السُّفهاء والمستغلِّين، وأحيانًا المتنطِّعين، أو ذوي الأسماء الرنانة، والمناصب التي رفعتهم فوق أعناق البشر، أو أي مسمي خوَّلوه لأنفسهم للركض على سلالم العلاقات الشخصية ودهاليز تسليك قنوات التعاون المتبادل.

مَن يعنيني هنا هو أنت أيها القارئ، ماذا لو تَصَادَمتْ مطالب التسليك المغلَّفة بالعشم وعقد الود، وهي مطالب قد لا تطيب لها نفسك، ولكن تتغاضَي عنها لأنَّ الخجل والحرج دفعاك بلطف إلى زاوية ضيقة أكرهتك على تسليك أمرٍ لا تريده؟!! بل إلى أيِّ مدى قد يدفع الحرج بأحدهم لأن يقبل ما تطيب إليه نفسه؟!!! ألن يرفع ذلك سقف طمع الآخرين بكنف طِيبك؟!!! وإذا وصلتْ بك مطالبُ التسليك والعشم إلى مُفترق طرق: بين عدلٍ ومساواةٍ أو ظلمٍ وقهرٍ.. أيهما حينها ستختار؟

تسليك مُعاملة أو ورقة أو موعد أو قرار...إلخ، ستنجد بالفعل المطلوب من الخجل، لكنها لن تُسعف من يقع عليه ظلم التأخير أو التعديل؛ وبالتأكيد فإنَّ الأمر سيساعد أحدهم ممن لا يستحق، وبالغالب يكون غير يستحق، وتوقِف عمل محتاج ينتظر ومجتهد متأمِّل.

لستُ ضدَّ التسليك، وقد يستغرب البعض ذلك، ولكنِّي ضد استغلال التسليك لليِّ الرقاب، فأنا ضد التسليك الذي يخدم من ليس أهله.

قد يبرعُ "س" من الناس بفن التواصل، ويمتلك شبكة واسعة من التسليك، تسهل الأمر عليه كثيرًا للطيران العمودي والصعودي، مهشمًا وساحقًا الكثيرين ممن اجتهدوا وثابروا بإخلاص وتفانٍ.. فالتحايل هو أحد أوجه التسليك المتستر، تمكِّن العابث من سرقة حظوظ الآخرين، وتحوِّله إلى سيف بتار يقطع قاعدة القناعة الأزلية بأن "الإخلاص والتفاني" هما ركائز أي عمل شريف. إذ حينها يحق لي ولك بل وللجميع التساؤل: ما الحاجة للاجتهاد والمثابرة إن كانت "مكالمة تسليك" واحدة كفيلة بتقزيمك داخل قُمْقم الخجل.

قضاء حوائج الناس فضيلة وإحسان ومعروف يُثاب عليه فاعله، ولكن تسهيل أمر عابث لا يستحق فهذا هو الفسق بعينه، وأداة من أدوات الفساد الأبدية؛ فما أسهل التستر على لصٍّ، وما أسهل التحرُّج من سليط لسان، وما أسهل الظلم بهما.. وصدق المفكر والفيلسوف ابن خلدون حين قال: "لو خيروني بين زوال الطغاة وزوال العبيد، لاخترت زوال العبيد، فهم من يصنعون الطغاة".

وأخيرًا.. سُبل صناعة الفاسدين سهلة، فمن يحيطون به هم من أسهموا في ظهورهم. ورجائي لك، لا تطوِّع رقبتك خجلًا وينتهي بك الأمر إلى حمل رأسك على كفِّك، لمجرد أنَّك تستحي أن "ترد" فلانًا أو علانًا.. واعلم أنَّ سماء الأطماع والرغبات مفتوحة، والخجل والتحرُّج صفات بشرية، ولكن العدل والمساواة مطالب سماوية، فإنْ شرعت باب الطمع هلكت من كثرة الطلب، وعجزت عن ثني السَّبب، فبئس مسعى الطالب ومسعى المطلوب كذلك.