حمد بن سالم العلوي
لستُ أعلمُ ما الذي تراهُ الحكومة في شأن المتقاعدين، وبالتحديد أولئك العسكريين والأمنيين ممن واكبوا فجر النهضة العُمانية، وبعضهم من قبل ذلك بسنوات في الدفاع عن الوطن، والكل مطلع على وضع البلد في تلك السنين، وخاصة في الفترة من عام 1965 وحتى عام 1975 تاريخ النصر على المعتدين، أكان بالمعايشة لذلك الواقع، أو بالاطلاع على التاريخ المحكي أو المكتوب، فبعض رجال تلك الحقبة ما زالوا يعيشون بيننا، وعلى أيديهم تم النصر على فلول البغاة والطاغين، وهناك من استُشهد في معارك الشرف والفداء، وغيرهم كثر ما زالوا متأثرين بإصاباتهم في ساحات الوغى، دفاعًا عن عُمان وشعبها ونظام الحكم فيها، وأن نعمة الأمن والأمان التي نعيشها واقعًا اليوم في سلطنتنا الحبيبة، كان ثمنه تلك الدماء الزكية، والعرق المسكوب على جبال عُمان الطاهرة.. فهل جزاء الوفاء الإهمال؟!!
التقاعد أمر طبيعي ومفهوم للجميع، وهو مصير كل جندي وضابط؛ بل وكل من كان في الوظيفة العامة أو الخاصة، لكن الذي ليس طبيعي ولا منطقي ولا مقبول على الإطلاق، أن يجحف في حقوق المحاربين القدامى، وهم الذين أدوا الواجب على خير ما يرام، وليس من العدالة أو الإنصاف، أن يمنح أولئك المحاربين والعاملين على تأسيس هذه الدولة، والرقي بها من تحت الصفر، والذين صبروا على مرارة الحياة، وقسوة ظروف المرحلة، أن يمنحوا معاشات تعادل ثلث معاشات ممن أتوا بعدهم، وقطفوا ثمار جهد أولئك المحاربين القدامى، ففي هذا إجحاف وظلم في حق الأوائل من رجال قوات السُّلطان المسلحة، والأجهزة الأمنية الأخرى، وذلك على حد سواء.
إن من حق المتقاعدين العسكريين والأمنيين، بأن يتسألوا، لماذا لا توحد معاشات المتقاعدين؟! ولماذا هذا الفارق الكبير في المعاشات في جهة واحدة؟! فهل يُظنُّ أن المحاربين القدامى قد توقف معهم الزمن؟ فلا غلاء في المعيشة يشملهم؟ ولا شيء تغير في حياتهم؟ ولا هم يعيشون حياتهم معنا؟! فعندئذ تُعذر الحكومة من إغفال شأنهم، كونهم يعيشون زمنًا مختلفًا!! ولكنهم يعيشون معنا وفي زماننا وبكل متطلباته الحياتية، والأمر الطبيعي أن أعدادهم في تناقص مستمر بحسب سنة الحياة، فلن يكلفوا كاهل الدولة الشيء الكثير، لذلك كان الواجب أن تعطى المعاشات الكبيرة، والمتميزة لأولئك المؤسسين الأوائل؛ لأنهم كانت ظروفهم أصعب وأقسى وأخطر. أما من أتى بعدهم فوجد كل شيء قد أُنجز، وتمت تهيئته وتمهيده من قبل الأوائل، وأن الحرب قد وضعت أوزارها في زمنهم، والحياة أصبحت طبيعية ومستقرة، والخدمة العسكرية صارت أخف ضغطًا؛ بل وتكاد تكون بلا مخاطر ومغامرات، اللَّهُمَّ إلا في واجبات التدريب الدورية، والتمارين البرمجة، وذلك حتى لا تكون عُمان طعمًا سائغًا للأعداء، إن لم تكن مستعدة للقتال.
إذن؛ بمنطق الأمور الطبيعية، فإن أوائل المحاربين هم الأولى بالمعاشات التي بُشِرَ بها في الأول من يناير من عام 2012، وليس العكس، ولقد آن الأوان لتصحيح الأوضاع، وتوحيد المعاشات، وليس هذا فحسب؛ وإنما ضرورة رد الاعتبار إلى أوائل المتقاعدين، وألا يجعل هؤلاء المتقاعدين مضرب المثل في سخرية الأقدار منهم؛ لأنهم هم من حمل شرف الجندية على عاتقه وقت الضرورة، وحمى حياض عُمان من الغزاة المعتدين، ومن ثم الانغماس في خدمة عُمان، على قاعدة يد تحمي ويد تبني.
إن الدول صاحبة التاريخ العريق كعُمان، لا يليق بها أن تتخلى عمن صنعوا أمجادها بالعرق والدم، ومن غير المتصور أن يُقدم متقاعدو الوطن على الاعتصام في الشارع، أو رفع لافتات يكتبون عليها مطالبهم المشروعة، أو اللجوء إلى إصدار بيانات في القنوات الفضائية، كأقرانهم في دول العالم الثالث، فالمتقاعد العُماني يلزم نفسه بالصمت والاحترام، وقد يصبر على الجوع والعوز، ولا يخرج عن قواعد الانضباط العسكري، فالمتقاعد لا يعفِ نفسه من التزامه أصول الضبط والربط العسكري.
إذن؛ الواجب على حكومة صاحب الجلالة السُّلطان المعظم، أن تنظر بعين العدل والإنصاف في حق أبناء قوات السُّلطان المسلحة والأجهزة الأمنية من الأوائل، وقد كان جلالة السُّلطان قابوس - طيب الله ثراه - يختم خطاباته الرسمية بالشكر والثناء لرجال قوات السُّلطان المسلحة، والأجهزة الأمنية في كل مرة، وأن جلالة السُّلطان الأمين هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- والذي شرَّف رجال قواته المسلحة بزيارات سامية كريمة مؤخرًا، وتكريمًا لهم فقد شرَّفهم بارتداء الزي العسكري للقائد الأعلى لقوات السُّلطان المسلحة، فذلك الظهور له دلالته الواضحة، بأن الاهتمام بالقوات المسلحة لم يتغير فيه شيء، وأن قوات السُّلطان المسلحة، ستظل محل اهتمام وراعية سامية من لدن جلالته- حفظه الله- وبالطبع فأن المتقاعدين يمثلون القوة الاحتياطية للذود عن حياض الوطن عند الضرورة.
إذن؛ فإن الجندي الذي يخدم في القوات المسلحة، أو أولئك الذين يخدمون في الأجهزة الأمنية المختلفة، يخدمون وأعينهم على يوم التقاعد، فإن هم رأوا إهمالاً وعدم اهتمام بهم، فأن ذلك سيؤثر على نفسياتهم سلبيًا، أكان ما يخص المعاشات التقاعدية، أو الامتيازات ما بعد الخدمة، وخاصة وأنهم يرون اليوم الإهمال التام لمتقاعدي الأمس، فبعضهم ليس لهم يوم يذكرون فيه، والبعض الآخر لا يجد الاحترام الذي يقابل به، حتى إذا داخل إلى الجهة التي كان يعمل بها، فيدخل إلى مكاتب أقرانه كالغريب، وحتى إن سئل من أنت؟ وقال: أنا (فلان الفلاني) فيرد عليه: ولكنك متقاعد! وكأن التقاعد أصبح تهمة، أو شيئا معيبا، فنقول؛ ما هكذا ترد الإبل، فالتنكر للمتقاعدين كمن ينكر تاريخه وقيمه الحميدة، حيث يظل المتقاعد عبق التاريخ وذاكرة عُمان المشرفة.
إن العالم المتحضر- ويفترض أن تكون عُمان منه- يعتني بمتقاعديه، ويمنحهم امتيازات ومكافآت، وخصومات في تذاكر السفر وينسق لهم مع النوادي والفنادق والمجمعات التجارية والمستشفيات الخاصة، وكذلك في تدريس أولادهم في الجامعات المحلية والمعاهد، ويساعدونهم في توظيف أبنائهم؛ وذلك تقديرًا واعتزازًا برجالهم الأوائل، والمتقاعد لا ينبغي أن ينظر إليه؛ كقطعة غيار في جهاز ما، فإذا عطب يستغنى عنه، ويستبدل بقطعة أخرى وانتهى الأمر، أن الذي يطالب به المتقاعد، أن يُخرج من الحالة السلبية التي وضع فيها، وأن يحول إلى شيء إيجابي حتى يستمر في خدمة الوطن، فهم يلاحظون أي المتقاعدين، إنه يؤتى بكبار السن من المتقاعدين من خارج البلاد، كمحاضرين ومستشارين ومعلمين، ولكن المتقاعد العُماني بمقدوره أن يقوم بهذه المهام، وأن يُعطي أفضل من الوافد، وهذا أمر مجرب وموثوق منه، وذلك متى ما أنصفنا المتقاعد الوطني.. هذا وبالله التوفيق.