للصّرب رونق

سعيدة البرعمية

إنْ كان الناس قد اعتادوا على مقولة " كلّ الطُّرق تؤدي إلى روما، فقلبي يُوقن أنَّ كلّ القلوب تهفو إلى ظفار، بدأت أيام سبتمرالمميزة تبث في طياتها نبأ جميل، لا يقل أهمية عن فصل الخريف، فما أن يبدأ الخريف بحزم أمتعته مودعًا كمقيم مُغادر انتهى عقد إقامته؛ حتى يأتي مُقيم آخر أنيق وجذّاب يُذيب القلوب ويخطف الألباب برشاقة مظهره وجمال روحه، حيث تهب نسائم أخرى معاكسة ومشابهة نوعاً ما للنسائم الخريفية، حاملة معها أنفاس ضيف لطيف يقوم بإزاحة الضباب من السهول والوديان وقمم الجبال، مُبشّرا بحلول موسم "الصّرب".

لفصل الصّرب، مكانة خاصة عند أهل ظفار، فهو النتيجة المُبهرة الناتجة عن الخريف؛ فالسماء تخلع رداءها كاشفة السترعن مفاتنها، فتتلألأ نجومها مسامرة الساهرين، تلوّح لهم  ببريق  لمعانها، والأرض تكتسي الذهب وتزهو به متأنقة، تفوح منها الرياحين وعبق اللبان.

للصّرب أفق يطلق الفكر هائمًا بالسماء، وله رونق وجراح.   

من أجمل ما سمعت في وصف المشاعر الصّربية، مقطع جميل من فن الدبرارت من كلمات الشاعر سالم بخيت المعشني، حيث قال في رائعته "تَرَفْ أَعَصرْ أظَفَلْ":

شقيلك آديت عيون من أقيطون إدجربب

بخلطك راحبيح صربي ضر ركس نهل أمنشر

رحم أهجس كاريت تنش أهمك بعذب

أيّ أن الشاعر يصف المشاعر في وقت الصّرب المميز، فيقول: لقد قابلت النسائم الهادئة الخفيفة سنوات في السهل والجبل وما بعد الجبل " أقيطون " فهو يفرّق بينها ويعرفها جيدًا بحكم انتمائه لهذه الأرض؛ فيبدو أنّ روحه تهيم بهذه النسائم وتمتزج معها، كما أنه يصف جانب تأملي، يُشير فيه إلى أنّ ذلك الوقت  في السنة يثير التأمل والتماهي مع الطبيعة؛ فيصف شعوره وهو جالس على مكان مرتفع والقمر في انتصافه، فينشرح صدره ويسرح هناك بمخيلته، في الجمال الآسر من حوله؛ فينسى تعبه ومعاناته.

لا شك أنّ هذه المشاعر الصّربية، تأسرالجميع ولكن الشاعر أبدع كعادته في وصفها.

منذ سنوات سمعت إحدى صديقاتي تنادي ابنتها باسم غريب لا أذكره الآن، سألتها عن معناه، فأجابت: معناه "أراحبيح صربي"، وأخذتْ تشرح قائلة: ألا تذكرين هبوب النسمات الخفيفة المحملة برائحة الزهور البرية والأعشاب الذهبية بعد تعرضها للشمس في بداية فصل الصّرب؟  أحبُّ تلك النسائم ففضلّت أن يكون اسم ابنتي عليها، تيمنا بجمالها ورحها الربيعية.

سمعت كثيرًا مثل شعبي "أصرب بش آفلوك" وفيه إشارة إلى أن الأجداد يحسنون ظنّهم في موسم الصّرب؛ لما يجدون فيه من انتعاش متواضع لحالهم الاقتصادي، فالأرض تجود فيه برزقها الوافر؛ ممّا يزيد من إنتاج الحليب وبيع  " السمن الخرفي " وهو سمن ذو جودة عالية نظرًا لجودة المرعى وتنوعه،  ويُغدق البحر عطائه، فتهدأ أمواجه الثائرة طيلة فصل الخريف، وتشتدّ زرقته ويجذب هدؤه الصيادين؛ فيحددون اليوم الجماعي لنزول البحر ويسمى بـ"الفتوح" ينتعش الصيادون في هذا الموسم ويكثر صيد أسماك السردين، الذي يجفف ويقدم كعلف للحيوانات.

يقابل يوم " الفتوح"  يوم  آخر وهو " يوم خطيل الإبل "  حيث يتفق عليه أهل الإبل فيما بينهم، سواء كانوا في السهل أو في القطن، يصطحبون إبلهم في مشاهد مُهابة  فريدة من نوعها من السهول باتجاه وديان المحافظة، وادي نحيز ووادي دربات وغيضت وثيدوت وغيرها.

ينتظرعشّاق الإبل تلك المشاهد بشغف، فالإبل من بديع صنع الخالق، مزيج من العزّ والهيية والذخر؛ فضلاً على أنها متعة للناظرين، لستُ من أهل الإبل ولا تربطني بهم صلة قرابة؛ لكنّي ممّن تبهجهم صورة ناقة، فهيئتها تستوقفني مهما بلغ حجم انشغالي.

تترنّم رياح الصّرب بانسجام  مع وقار" خطيل الإبل " فالمشهد خرافي ساحر، ينعكس بدوره على مُصطحبيها من أهلها أو من عشّاق " رحلة الخطيل " فيستسلمون لخلجاتهم ويقيمون السهرات والليالي الجميلة، التي تتخللها أهازيج  من الهبوت والنانا والمشعير، مصاحبة جميعها برغاء وحنين الإبل، معبّرة بدورها عن فرحتها؛ احتفاء بهذه المناسبة المنتظرة منذ ثلاثة أشهر.

وقد استطاعت جبجات أن تستحوذ على ذائقة الناس في الأسابيع الأولى من فصل الصّرب في الآونة الأخيرة فسميت بـ"نجمة الصّرب" ومن ثم يأتي دور ضلكوت ورخيوت ومرباط  وغيرها، حسب الذوق والمزاج ومواسم الصيد.