العقلانية كما يراها المستشرقون!

عبد الله العليان

من خلال قراءاتي لأعمال وجهود المُستشرقين لقضايا الوطن العربي والعالم الإسلامي، نجد أنهم يهتمون كثيرًا بالفرق والجماعات الدينية والفكرية، التي لها رؤى تختلف عن عموم العرب والمسلمين في بعض الرؤى الفكرية والفلسفية العامة.

وفي هذا الصدد نرى الكثير من الأبحاث والمؤلفات والبحوث الجماعية، بهذه الجماعة التي ربما لها نظرية فكرية تختلف عن الرؤية التي يجري حولها الجدل. ومن هذه الاهتمامات، قضية "المُعتزلة"؛ وهي من الفرق الإسلامية المعروفة، والتي ظهرت في العصر الأموي، وبرزت بصورة أكبر في العصر العباسي، خاصة في عصر الخليفة المأمون وأخيه المتوكل، لكن عصر المأمون هو الذي ظهرت فيه قصة المحنة وخلق القرآن، التي حصلت لبعض العلماء بهدف إجبارهم على الرؤية الفقهية للمُعتزلة، ومع رفضهم واجهوا الكثير من المحن، إلى حد القتل.

الاهتمام الذي انصب من بعض المستشرقين على المُعتزلة، كان بسبب اهتمامهم بالعقل الفلسفي، وربما وجدوا فيه نزعة قريبة من النزعة العقلانية التي تتوافق مع الفكر الغربي، والبعض الآخر يرى أنَّ هذا الاهتمام ينطلق من حاجة أخرى في نفوس المستشرقين، الذين سبقوا ومهدوا للحملة الاستعمارية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، من حيث انشغال الأمة الواحدة في قضية الخلافات، وإعطاء هذا الجانب الأهمية لزيادة الفرقة والخصام في بعض الآراء والمنطلقات. ولذلك نجد أن غالبية كتاباتهم اتسمت بالدفاع عنهم، وخاصة رؤيتهم العقلية بصورة أكبر، أو أنهم أحرار الفكر ودعاة العقل إلخ.. وللعدل والإنصاف، فإنَّ المعتزلة لم يكونوا بتلك الصورة التي رسمها البعض من المُسلمين، وكذلك ما أراده الاستشراق في هذا الاهتمام، ذلك أن المعتزلة لم يكونوا في مسألة اهتمامهم بالعقل، انسلخوا من الفكر والقيم الإسلامية؛ بل كان لهم دور رائد ورائع في الدفاع عن الإسلام والقرآن من بعض المدارس الفلسفية التي دخلت في الإسلام، في العصر العباسي على وجه الخصوص، بعد دخول الشعوب الأخرى في الإسلام مثل العراق وفارس والشام، وحاولوا التشكيك فيه بعد انتشاره. وانصب المعتزلة للدفاع عن الإسلام، دفاعًا عظيمًا بنفس أسلحتهم الفلسفية والمنطقية، وهذا ما جعلهم يطرحون قضية العقل في بعض الأفكار والمنطلقات في مناظراتهم الفكرية والفلسفية، ونجحوا في ذلك نجاحًا باهرًا.

لكن البعض من العلماء والباحثين، يوجه للمُعتزلة بعض الانتقادات منها: أنهم غالوا في قضية العقل على حساب النقل، فيما وضعوه في بعض هذا الفكر، لكن البعض يرى أنَّ بعض النقد أيضًا مبالغ فيه إلى حد كبير.

وبعض الباحثين العرب، الذين اهتموا بقضية المعتزلة، يرون أنَّ المعتزلة ليسوا كلهم على مستوى ثابت، فهم مختلفون في رؤيتهم، تجاه مجمل القضايا. ويُعد الدكتور محمد عمارة أحد أهم الذين كتبوا عن المعتزلة، وكانت رسالته في الدكتوراه عن المعتزلة والتي حملت عنوان: "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة"، ومما قاله في بعض أحاديثه إن المعتزلة "ظُلموا ظلماً شديداً، ومنهجهم العقلي تشعب لجميع فرق الإسلام". ويقول د. عمارة- رحمه الله- في هذا الكتاب المشار إليه في قضية العقل عند المعتزلة: "لقد وجد المعتزلة أن السبيل إلى نصرة العقائد الإسلامية في صراعها مع النحل والمذاهب الأخرى، يتطلب التسلح بذات الأسلحة التي يتسلح بها الخصوم، وفي مُقدمتها أسلحة الفلسفة اليونانية في الجدل والبرهنة والحجاج؛ فدرسوا الفلسفة كي يدافعوا بها عن الدين، وجمعوا بين الفكر الديني الإسلامي وبين علوم الأوائل. فكان لنا منهم ذلك المزيج الجديد من الفلاسفة الإلهيين. وعلى حين كانت نقطة الضعف عند أهل السنة وبخاصة أصحاب الحديث هي عجزهم أمام الخصوم، لجهلهم بأسلحة الفلسفة التي رفضوا التسلح بها، كان إقدام المُعتزلة على ارتياد هذا المجال هو السبب في قوتهم وقوة عارضتهم، والعامل الذي جعل منهم أبرز المُدافعين عن الإسلام".

لكن لماذا اختفى فكر المُعتزلة؟ ولم يعُد له أتباع ومناصرون لهذه الرؤية الاعتزالية كما بدأت في العصور الإسلامية الأولى؟ سواء دراسات بحثية لهذا الفكر بين المخالف والمؤيد لفكرهم.

وقد كتبتُ في ذلك بعض الآراء حول محنة خلق القرآن، حيث ذكرت سابقًا أن المعتزلة قدموا للأمة الكثير من الآراء العظيمة، ودافعوا عن الإسلام دفاعاً مجيداً، عندما ظهرت الفلسفات التي حاولت النيل منه، فكانوا خط الدفاع الأول الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، واستطاعوا أن يدحضوا الكثير من الأفكار والفلسفات بالحجج المقنعة، لكن بعضهم- كما يقول بعض المهتمين بفكرهم- شطح كثيرًا في مسألة العقل ودوره. كما إنه مما يأخذ عليهم أنهم ناصروا الخليفة المأمون في فرض مذهبهم الفكري على الآخرين، وربما هذا السبب الذي جعل مذهبهم الفكري يتراجع كثيرًا بعد هذه الوقائع، ولم يتحقق لهم ذلك الانتشار بما قدموه من أفكار تستحق التقدير لدى العديد من الباحثين. لكن أحد المستشرقين وهو إجناتس جولدتسيهر خالف رأي الغالبية، وانتقد هذا الموقف منهم، وقال: "هل لنا أن نسمي المعتزلة أحرارًا؟ يجب علينا أن نأبى عليهم هذه التسمية، حينما كان للمعتزلة الحظ في أن يكون مذهبهم هو المذهب الرسمي في عهد 3 من الخلفاء العباسيين، فُرض مذهبهم على النَّاس بقسوة التفتيش والتحقيق والإرهاب"..

والحقيقة أني أرى أنَّ هذا التعبير من هذا المستشرق منصف، وكان يفترض منهم- وهم يتسمون بأحرار الفكر- ألا يُشجعوا المأمون على فرض فكرهم الاعتزالي بالقوة والإجبار.