تجربة عبدالله الطائي الروائية

أحمد الفلاحي

لأنَّ همَّ الوطن هو المُسيطر على عبدالله الطائي جاءت كتاباته مُعظمها منبثقة من الوطن وعنه في شعره ونثره وفي هذا الإطار كانت روايتاه "الشراع الكبير" و"ملائكة الجبل الأخضر" وكذلك مجموعته القصصية "المغلغل" فهو في تجربته السردية كانت أحداث الوطن الأساسية الكبرى شاخصة أمام عينيه يستلهم من وقائعها مشاهد روايتيه، متتبعاً الأحداث خالطاً الواقع بالخيال ومسجلاً الصراع المُحتدم على مدى عقود وسنوات بكل ما في ذلك الاحتدام بين هزائم وانتصارات ونجاحات وانتكاسات في تلك الأيام القاسية التي كانت مُهيمنة على وطنه والمتاعب النازلة بالنَّاس في مسار حياتهم ومعيشتهم أو في ويلات الحروب والصراعات المُؤلمة المُلمة بالوطن وإذا تركنا مؤقتاً مجموعة  "المغلغل" وقصصها والتفتنا للروايتين وما سجلتاه من صراع له سمة الحرب وأثرها وما ينتج عنها في مرحلتين مفصليتين من تاريخ الوطن.

مرحلة الهجمة البرتغالية الشَّرسة وانعكاساتها والثورة العُمانية ضدها مكللة بالانتصار عليها بعد زمن طويل نيف على قرن من الزمان منذ بدايتها وحتى انتهائها والنتيجة في الأخير كانت قيام دولة اليعاربة التي استطاعت تطهير البلاد من الغُزاة ومُطاردتهم في الهند وشرق إفريقيا. ومرحلة حرب الجبل الأخضر وما تلاها في أواخر خمسينات القرن العشرين بين الإمام والسلطان بمُساعدة القوات البريطانية وما خلفه قصف طيرانها من نتائج مُؤلمة مدمرة. وقد بينت الروايتان ما يكون عادة في المعارك من تخطيط وتدبير واحتيالات واغتيالات ومُواجهات مباشرة وغير مباشرة والتحامات يتساقط في شدة سخونتها القتلى والجرحى وتنسكب الدماء من الأجساد وتُحلق الأرواح في الأفق مُغادرة أجسامها الهاوية في التراب يُغطيها الغبار مع ما يُرافق ذلك من تهديدات وتحديات وتوسطات ومفاوضات. والروايتان تدخلان ضمن مجال الرواية التاريخية وهو مجال يعرفه قارئ الروايات ومتابعها بأنه يتكئ على أساس التاريخ اتكاءً كلياً متخذًا من أحداثه الركائز الصلبة التي يُقيم عليها أركان بناء روايته وإن دخل الخيال ليربط جوانبها ويشد تلاحمها ويُقارب بين متفرعاتها بحيث تقوم منطلقاتها على التاريخ مدعومة بالخيال الواسع فلا هي التاريخ المثبت الذي انبثقت منه ولا هي الخيال المطلق الذي انغمست فيه وهذا المجال في الرواية تنطوي فيه مئات الروايات منها الروايات الكلاسيكية في أوروبا وروسيا التي رصدت الحربين العالميتين الكبيرتين وفجائعهما ولعل من بين أبرز كتاب الرواية التاريخية العرب في بدايات ظهورها الكاتب اللبناني جورجي زيدان مُؤسس ورئيس تحرير مجلة "الهلال" المصرية الشهيرة وصاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام المعروفة ومن المعاصرين الذين ما زالوا على قيد الحياة الكاتب اللبناني الفرنسي أمين المعلوف وقد أوقف كل مشروعه الروائي الذي تجاوز الخمس عشرة رواية على الأخذ من التاريخ بشتى أزمنته في قدرة بلغت الذروة. وروايتا الأستاذ الطائي حاولتا انتهاج هذا المسلك والسير على منواله مقتطعتان من التاريخ العماني ما رأتاه مناسباً لحبكتهما مقاربة للصراع الكبير مع البرتغاليين ولأحداث الجبل الأخضر فراوية "الشراع الكبير" سجلت المقاومة العمانية للمُستعمر البرتغالي التي كانت خاتمتها النجاح والانتصار وقيام دولة اليعاربة التي سطرت في تاريخ عمان فصلاً مهما من فصوله العظيمة. أما "ملائكة الجبل الأخضر" فتدور حول المعارك التي نشبت في عمان بين الإمام وأنصاره وبين الجيش السلطاني وما رافقها من تداعيات حربية وسياسية وإعلامية.

وقد طبع المؤلف روايته "ملائكة الجبل الأخضر" في بيروت عام 1963م في حين طبعت رواية "الشراع الكبير" عام 1981م في مسقط بعد وفاة صاحبها بحوالي 8 أعوام. والحس العربي هو الطاغي بقوة في الروايتين فالأبطال في الغالب يمثلون مُعظم الأقطار العربية والمشاعر تجاه الأحداث واحدة وتعاطف الجميع مع المُقاومين نغمته واضحة جلية. وإذا قاربنا "الشراع الكبير" نجد بدايتها مع هجوم السفن البرتغالية على جزيرة "سقطرة" والسفينة البحرينية "الشاهين" تحمل نذر الخطر البرتغالي لكل من تلقاه في طريقها ويعم التحذير السفن القادمة من زنجبار أو تلك المنطلقة من عمان والخليج كل سفينة توصل الخبر للأخرى ليصل النذير إلى موانئ قريات ومسقط وجلفار والبحرين وذلك من أجل البدء في الإعداد لمُواجهة الخطر القادم نحوهم ويسيطر حديث أحوال العرب وضعف أحوالهم على ركاب سفينتي "الشاهين" الناقلة للخبر و"الدانة" المصادفة لها والمتلقية عنها المترافقتان والمتسايرتان وما هي الطريقة التي يجب اتخاذها بصدد هذا الهجوم الكاسح المفاجئ وفي عاجل الأمر تمَّ الاتفاق على قيام السفينتين بإبلاغ الموانئ القادمة وتحذيرها بحيث تتولى واحدة الاتجاه لميناء "قريات" والأخرى لمدينة "مسقط" ومن ثم الموانئ الأخرى والالتقاء في "المصنعة" ويرد في الحديث مسمى الوطن الكبير الذي جاء به الكاتب من زمنه الحاضر إلى زمن بعيد لم يكن يعرف فيه وذلك لانغماس مشاعره برباط العروبة القوي ولكن الكاتب وهو المطلع على تاريخ عُمان يقع في خطأ حين ينسب تحرير "سقطرة" من الأحباش إلى الإمام المهنا بين جيفر والصحيح أنَّه الإمام الصلت بن مالك الذي خلف الإمام المهنا فلعله التبس عليه ولم يُراجعه وقت الكتابة وذلك يحصل وجل من لا يسهو وتمضي الرواية مع صور وقلهات وقريات ثم مسقط التي نالها من الإرهاب والتدمير والحرق والقتل أضعاف ما أصاب أخواتها ومن مسقط تتجه سفن البرتغال حاملة التدمير والقتل لمدن الباطنة حتى صحار وجلفار وبقوة أسلحتهم الحديثة استطاعوا احتلال الموانئ والتمركز فيها ولكن المُقاومة بزغت وأخذت تقوى وتشتد في السنوات الأولى بقيادة العلامة أحمد ابن مداد الذي هو علامة عصره ومرجع العلماء فيه وكان له الفضل الأول في القيام بلم الشمل ورص الصفوف لتأسيس حركة مُقاومة المُحتل ومعه اصطف أكثر قادة عُمان وأعيانها وأبناء قبائلها في نهضة أرعبت المستعمر وظلت نيرانها مستعرة تتقد يتوالى اشتعالها في الأبناء بعد الآباء بقيادة العلماء والزعماء يخلف الأول منهم الثاني إلى أن وصل مسارها أخيراً بعد نحو قرن  من الزمن إلى العلامة الرستاقي خميس بن سعيد الشقصي.

وفي هذه الفترة الطويلة كانت المُقاومة تنمو وتتواصل متحدية البرتغاليين بكل الوسائل متحملة انتهاكات جيش الأسطول البرتغالي وبطشه وقسوته بصبر وثبات وعزيمة قوية لا تلين ولا تعرف الكلل والتراخي مُستمرة لا تتوقف من مرحلة إلى مرحلة كلما انتهى جيل ظهر الجيل الذي يليه ليمتد الكفاح ويتعزز ومن خلاله يقترب أمل النصر وهزيمة الغازي المعتدي دون أن يصيب الملل والإحباط جموع الثوار المقاومين أو ينال من صمود إرادتهم ويتسلل من خلال الرواية تعاون وتأييد الأشقاء العرب من البصرة والبحرين والشام ومصر وغيرها من أوطان العروبة وقد نضجت المقاومة واكتمل نجاحها بانتخاب الإمام ناصر بن مرشد اليعربي مؤسس دولة اليعاربة الذي اتحدت عُمان كلها تحت رايته فتولى قيادة الحراك الوطني المناهض للأعداء وقد أحرز انتصارات كبرى على البرتغاليين أدت في الختام إلى خروجهم وتخليص البلاد من شرورهم وفي السرد يظهر مع بدايات نهاية الاحتلال البرتغالي عشق الضابط البرتغالي قائد حامية مسقط لابنة التاجر الهندي المُكلف بالنواحي المالية والإدارية باعتباره من تجار مسقط العارفين بأحوالها تلك الفتاة الرائعة الجمال التي كانت بطلة الرواية وبسببها وبتعاون والدها استطاعت المُقاومة العمانية الوصول لثغرات عززت من أدوارها وقربت هدف انتصارها وقد أطلقت الرواية على حركة المقاومة اسم جماعة ابن مداد نسبة إلى من اعتبرته المؤسس الأول والرواية استندت استنادًا كلياً على معلومات التاريخ وإن تصرفت وتوسعت بما تقتضيه حبكة الرواية من خلق أحداث وتخيل حوارات وإدخال الطابع القومي باختراع مساندات العرب لنضال عُمان من قبل العراق ومصر والشام واليمن وإن وقع شيء من الأخطاء البسيطة حول أحداث مُعينة وأسماء بذاتها كمثل نسبة جيش تحرير سقطرة إلى الإمام المهنا بن جيفر وهو كما قلنا الإمام الصلت بن مالك الذي تولى الإمامة بعد وفاة الإمام المهنا ومثل إطلاق لقب الإمام على الجلندى ابن المستكبر الذي كان قبل الإسلام ولعلَّ المقصود حفيده الجلندى ابن مسعود وكذلك الإشارة في مكان ما إلى أنَّ الجلندى هو من طرد الغزاة من سقطرة ونحو ذلك من التجاوزات اليسيرة والرواية على أية حال ليست تاريخاً بل هي أشياء متخيلة وإن ارتكزت على جونب من التاريخ.

ومثل "الشراع الكبير" كذلك رواية "الجبل الأخضر" التي تناولت أحداث نزوى والجبل الأخضر والصراع بين الإمامة وحكومة السلطنة وتدخل الطيران البريطاني لدعم الجيش والمشاعر القومية التي يُؤمن بها الكاتب طاغية على الرواية ابتداء من بطلتها العراقية "وداد" التي دفعها شعورها القومي للمغامرة بمفارقة أهلها ووطنها لتساهم في مداواة المصابين وتضميد الجرحى ومن الحس القومي كذلك الذي أصرت الرواية على إبرازه بالمناصرة العربية من سوريا ومصر والعراق للمقاتلين بالجبل الأخضر ودعم حركة الإمام هكذا مضت الرواية مستقصية أحوال تلك الحوادث بكل ما فيها من أحزان وأفراح وصراعات وتحديات.

"15/إبريل/عام 1958م لدى ملائكة الرحمة بالجبل الأخضر ذكرى جميلة إنه اليوم الذي ولدت فيه شريفة طفلا جميلا أطلقت وداد عليه اسم سلام" هذه فقرة من الرواية ووداد التي جعلها الكاتب بطلة الرواية هي كما أسلفنا فتاة عراقية تركت البصرة وجاءت إلى عُمان لمؤازرة المقاتلين وصعدت الجبل الأخضر لتنصب مستشفى صغيرًا تعالج فيه الجرحى والمصابين تطوعا منها ثم أحبت خالد الذي هو أحد الأبطال الأساسيين في الرواية كونه من قادة المُقاومة البارزين وهو في الوقت نفسه صديق لأخيها المناصر لجماعة المقاتلين وقد تزوج خالد من وداد فيما بعد حسبما جاء في الرواية وكثير من أبطال الرواية أسماء حقيقية معروفة وقد نبَّه الكاتب نفسه في الرواية إلى ذلك.

وفي الرواية صور لبعض مشاهد الجبل الأخضر من قصف الطائرات وتدريب المقاتلين وسقوط القتلى من الجيش ومن أفراد المقاومة وتبادل الرسائل وإلقاء المنشورات والنقاش المحتدم حول ما يجب فعله وهكذا تتوالى حركة سير الرواية بين الجبل الأخضر ونزوى ومسقط وبين مصر والعراق والشام.

وكلتا الروايتين تحمل الهم الوطني وبذل الجهد في سبيل الوطن وإعلاء شأنه.

وإضافة إلى الروايتين كتب عبدالله الطائي قصة طويلة اسمها "المغلغل" رصد فيها شيئاً من الأساطير وإيمان النَّاس في الماضي بقدرات الجن والسحرة والتماس العلاج منهم وهي كذلك طافحة بالهم الوطني. كما كتب أربع قصص قصيرة تدور أحداثها ومحاورها في الأوضاع العربية وبخاصة قضية فلسطين وتمزق شمل أهلها وظروف اغترابهم ومُعاناتهم.

ذلك هو الجانب السردي عند عبدالله الطائي في محاولة منه لمقاربة الخيال في الرواية والقصة والدخول في عوالمها وملامسة جوانبها مركزاً على التاريخ يستلهم منه وينطلق من أفقه إضافة إلى الواقع الاجتماعي المعيش وما فيه من مكابدة الحياة وتقلباتها وتجليات أحوالها وكان له حضوره الأدبي في هذه المجالات مع تجاربه الشعرية والكتابية المختلفة.

تعليق عبر الفيس بوك