فيلم "القاضي"

 

عبدالله الفارسي

لستُ محلل أفلام بارع، ولكني قارئ أفلام جيد، لا أحب "الأكشن"؛ فهي زيف حقيقي ولا أستسيغ الكوميديا، فهي عبث وجودي، أميل إلى الدراما لأنها مسرح الحياة الحقيقي.

رغم أنَّ المشاعر الأسرية والعواطف الأبوية والعاطفة الأخوية تحديدا تعرضت لتدمير كبير في زمن الواتساب والانستجرام والفيسبوك والتيك توك، فقد تهشمت وتمزقت وتكسرت لكن ما زال القلب البشري قادراً على أن يضخ المشاعر الجياشة حتى في أشد اللحظات جفافا وقسوة. عادة لا أحب متابعة الأفلام، أعشق غالباً متابعة الكتب. أحب أن أقرأ 200 صفحة خلال ساعة ونصف الساعة بدلاً من البحلقة أمام الشاشة كل تلك الدقائق كعجوز مترهلة. لكن هناك إبداع أيضاً في عالم الشاشة والتمثيل يتساوى مع إبداع الكتب وإنتاج الروايات.

جمعتني الصدفة قبل أيام بفيلم "القاضي The Judge"، وأكره ما عندي الجلوس مع الثقلاء والتافهين، وما أكثرهم معنا، وكما قال الأصمعي على لسان ابن أبي طرفة "مجالسة الثقيلاء حمى باطنة".

فورطت نفسي تلك الليلة ورميت نفسي بين بعض الثقلاء، فعدتُ من عندهم وأنا في حالة فراغ نفسي وعاصفة من التهشم، جلست أنا والشاشة محتضناً كماً هائلاً من الفراغ والفوضى المحيطة والعبث المدمر. فاستطاع الفيلم أن يطهرني تماماً وأن يغسلني بالكامل من كل تلك الفوضى التي جلبتها من خارج المنزل والعالقة في روحي.

أبدع الممثل العجوز "روبرت دوفال" في دور القاضي الصارم، كما أبدع في دور الأب الحازم الصارم، تلك الصرامة التي يملأها القلق ويحشوها الخوف الأبوي على مُستقبل الأبناء. القاضي جوزيف بالمر، ومسيرة نجاح عملية وأخلاقية لا يُمكن التشكيك فيها، تتخللها صرامة وبعض القسوة في التعامل مع الأبناء خاصة ابنه الأوسط، يقولون الأوسط هو الأحب وهو نقطة الارتكاز العاطفي.

وكما قال ابن الرومي في مرثيته الشهيرة معاتباً الموت حين اختار أوسط أبناءه وأحبهم إلى قلبه:

توخى حمام الموت أوسط صبيتي

فلله كيف اختار واسطة العقد

فالابن الأوسط والمحامي الذكي اللامع والطائش العنيد سابقا والذي أبدع في القيام بهذا الدور الممثل الموهوب روبرت داوني جونيور، لم يمت هنا؛ بل كان محبوباً لدى والده درجة الموت.

الفيلم باختصار كما استنتجت هو طعنة قاصمة لأولئك الذين يقولون إن هوليوود هي عالم من الجريمة والرصاص والسوبرمانات (الخارقين) وحروب النجوم الزائفة والوحوش الكمبيوترية الكاذبة. لا إطلاقا.. فالفيلم يؤكد أن هوليوود ما زالت قادرة على الإبداع في دغدغة المشاعر، وفي رسم الدفء الأبوي بريشة ملونة تدفع قارب المشاعر الأسرية إلى مسارها الصحيح وعالمها المنسي.

قاضٍ يصدر حكمًا بالسجن 20 عامًا على مُجرم صعلوك قام باغتصاب وقتل فتاة صغيرة، وبعد 20 عامًا يخرج المجرم من السجن ويلتقي بذات القاضي في سوبر ماركت الحي، وفي زمن يُعد بالثواني تجتمع كراهية القاضي وكراهية المجرم في حيز زمني ومكاني ضئيل جدًا. وفي كلمات قليلة وجهها المجرم للقاضي تنهي حياة المجرم وتنهي مسيرة 40 عامًا من النجاح السلوكي والأخلاقي والتفوق المهني لقاضٍ اشتهر طوال عمره بالنزاهة والعدالة.

هكذا هي قراراتنا القاتلة نصدرها في ثوانٍ معدودة ونحتمل تبعاتها عمرا طويلا.

كل تلك الخبرة الطويلة والعمر المديد للقاضي فشلت أمام لحظة غضب سريعة تسللت إلى قلب القاضي الكبير وسلبته عقله السبعيني وحطمت سيرته العظيمة.

يخرج القاضي منتظراً المجرم، ليدهسه بالسيارة ويموت، ومن هنا تبدأ أحداث الفيلم المشاعرية العجيبة!

طوال الساعة والخمسين دقيقة تتجلى لنا روعة الأداء وقدرة الممثلين في إتقان الأدوار وتقمصها بشكل مُبهر، يُتهم القاضي الأب بجريمة القتل. وفي نفس الفترة التي جاء فيها ابنه الأوسط لحضور جنازة والدته، فتشتعل الذاكرة الأسرية العاطفية المعقدة بين الأب القاضي المتهم والابن المحامي اللامع والابن شبه العاق لوالده.

فتتكشف لنا طبيعة العلاقة الشائكة بينهما وأيضاً علاقته بأخويه؛ الكبير صاحب الإعاقة التي تسبب بها الأخ المحامي نفسه منذ سنوات ذات حادث سيارة مفجع وهو في حالة سكر، وكذلك علاقته العطوفة بأخيه الأصغر بسبب الإعاقة الذهنية الدائمة التي يُعانيها.

السؤال: هل سيدافع الابن عن والده الذي يبدو من خلال الأحداث بأنه يكرهه أو لا يحبه؟ الأب مهما كان صارمًا مع أولاده يظل يملك طاقة هائلة من الحب لهم، والابن الوفي مهما عانى من قسوة والده، يظل الحب لا يجف من قلبه لوالده.

هكذا أوصل لنا مخرج الفيلم المبدع تلك الحقائق من خلال تلك النقاشات الفلسفية النارية المحتدمة بين الأب وابنه. وتطابقاً لما يقوله العرب إن "الظفر لا يخرج من اللحم بسهولة".

أظهر لنا الفيلم قوة انفجار عاطفة الابن نحو والده بعد اتهامه بجريمة القتل تلاها اكتشاف إصابته بالسرطان، واشتعال عاصفة من المشاعر الحميمة الدفينة نحو والده كانت وراء إصرار الابن واندفاعه المُستميت لعمل المستحيل وتسخير كل مواهبه وذكاءه لإنقاذ والده.

أروع ما يوصله الفيلم إلى روحك هو فكرة أن الإنسان مهما واجه من تعقيدات ومناكفات في أسرته تظل الأسرة هي أجمل وأثمن ما يملكه الإنسان في الحياة، وأن الحياة الأسرية الناجحة هي تلك التي تقوم على النقاش والحوار الودي والتفاهم الكامل بين الآباء والأبناء في مراحل حياتهم المبكرة، وأنَّ التضحية فضيلة لا يتمتع بها كثير من البشر.

خلال الساعة والخمسين دقيقة من عمر الفيلم ستعرف أنه يجب عليك ألا تفوت الفرصة في الجلوس مع والديك، وتتمتع بوجودهما قبل أن يرحلا.

سيهمس الفيلم إلى قلبك ويقول لك بكل هدوء قائلاً: إن الحياة قصيرة جدًا، وليس هناك وقت لتأجيل المشاعر الجياشة أو كبتها في الصدور بين أفراد الأسرة وعدم ترك الخلافات الخفيفة والهروب منها؛ لأنها حتمًا ستظل تعتمل وتنتفخ وتكبر داخل النفوس حتى تنفجر في غير وقتها وفي غير زمانها. ولعل أهم رسالة أيضاً للفيلم هي أن الناس يجب أن يكونون سواسية أمام القانون وأن العدالة هي أعظم وأهم مبدأ في الحياة.

فيلم القاضي فيلم رائع بكل معنى الكلمة، بصراحة أقنعني الفيلم وأثار مشاعري واستطاع أن يسحب دمعتين ثمينتين من عيني. وأروع وأرق ما فيه هو نهايته، فأنصحكم بمشاهدته.