حمد بن سالم العلوي
نشأ العُمانيون على نظام السَّبْلة العُمانية، فكانت النشأة قوية وسليمة ومعصومة من المزالق الخطيرة، لأنَّ النشء كان يتربىَّ على نظامين، أحدهما بالقدوة من الأسوة الحسنة، فتتغلغل القيم والعادات والمثُل الطيبة إلى وجدانه تلقائياً، ودون أن يشعر كيف تعلم حسن المُعاملة ومكارم الأخلاق، فكان يتلقىَّ تلك الدروس سماعياً من مجالسة القوم في السَّبْلة، وثانيهما؛ يطبقها إرادياً وتقليدياً بالتعاون والتنافس الشريف مع أقرانه، وممن سبقوه في العمر، ففي السَّبْلة يتم الحديث عن الكرم والجود والحياء والكبرياء، والأمانة والوفاء والإخلاص، ونجدة المستغيث وإغاثة الملهوف، والدفاع عن الوطن، وعن النفس والغير والعِرض والمال، وذلك بشجاعة وإقدام، واحترام الكبير والعطف على الصغير، وإكرام الضيف والترفع عن الصغائر، وعدم الاعتداء على النساء والكبير في السن والطفل الصغير، وعدم إخافة الآمنين والضعيف وعابر السبيل.
لقد كانت طفولة أجيال السَّبْلة العُمانية، تزخر بالكثير من القيم والتقاليد والعادات الحميدة، وتطغى عليها القيم الوجدانية، فتلك الطفولة رغم محدودية وسائلها الإبداعية، إلا أنها تعيش طمأنينة في حياتها المعيشية، ويُحيط بها أجنحة الرعاية الأبوية والاجتماعية من الأخطار والمزالق، فكان الطفل إذا فُتح له المجال للعب، فإنه يظفر بشيء من محيط بيئته، فلا يشطح بعيداً نتيجة لمحدودية الإمكانيات المتاحة له، فمن كان زمانه لا يجد فيه إلا "كربة نخيل" يجرها بحبل يشبهها بناقة أبيه، والبنت تعمل "حجاة" لعروس تلعب بها من مضغ شجرة الشوع، والمضغ أو المُضغة وهي تلك المادة الشمعية التي تنتج عن عصر ثمار الشوع بعد استخراج الزيت منه، فتشكل منها البنت عروساً تلعب بها، وهي تشبه مادة الصلصال اليوم، فإنه لا عجب إن كان أفقهم الفكري محدودا، وطموحهم لا يذهب بهم بعيداً عن بيئتهم القريبة.
إلا أنه وفي السنوات الأخيرة من القرن الماضي، بدأ يتوارد على المجتمعات العربية التلفزيون، والمسلسلات المحدودة والموجهة والمُراقبة جيداً، وذلك قبل أن تداهمنا الفضائيات بغثّها وسمينها، وهنا أنعدمت الرقابة والسيطرة، والذي زاد الطين بلة بروز الإنترنت، وأمام الوافد الجديد تلاشت أدبيات المُسلسلات المحلية والبدوية، وحتى مسلسل "افتح يا سمسم" الذي كان له دور مؤثر في تعليم القيم والمبادئ والخلق القويم، انتهى عهد وفرط عقده، وكانت قد تلاشت قبل ذلك المجالس العامة، والسَّبْلة القيم في عُمان، بدخول عصر الحداثة والحياة المستعجلة، فأحدث هذا الاستعجال تغيرات كبيرة على سلوكيات المجتمعات التقليدية والمحافظة، وصحيح إن الحكمة تقول؛ ربوا أولادكم على زمن مختلف عن زمانكم، وبمعنى أوضح لا تجعلوهم يقلدونكم خطوة بخطوة، ولكن ليس إلى الدرجة التي تجعل الزمام ينفرط من عقاله، ويترك الأولاد يسرحون ويمرحون دون توجيه أو رقابة أبوية.
ففي مطلع القرن الحادي والعشرين، بدأت الأسر تفقد زمام الأمور والسيطرة على الأبناء، على ضوء هذه الهجمة الشرسة من وسائل التواصل المسماة ظلماً بـ"التواصل الاجتماعي" وكذلك انفلات القنوات الفضائية من عقالها، فصار الطفل ابن السنتين يفتح عينيه على أجهزة الهواتف الذكية، فأخذ الآباء يكرمون أبناءهم بتوفير أحدث الأجهزة لهم، كنوع من التكريم والوجاهة، أو حتى التنافس فيما بينهم والمباهاة بين الأسر، فكل أسرة تظن أنها مسيطرة على الأمر، وأن أبناءهم لن يخرجوا عن طوعهم ورقابتهم.
لكن الحقيقة المُرّة تقول عكس ذلك، فأخذ الأبناء يتمادون في الغوص إلى متاهات بعيدة، وتسحبهم برامج خطيرة دون إدراك منهم، فتسحبهم البرامج الخبيثة وهم في جلستهم، وبالقرب من أهلهم إلى مهاوٍ خطيرة، تتراوح بين الابتزاز بأفعال مشينة، وحتى الاستغلال اللاأخلاقي، ومنها مشاهدات لأفلام إباحية وإغراءات جنسية، وقد يستدرجون للخروج خلسة من البيت، وربما يتعرضون للخطف بغرض الابتزاز المالي، أو حتى هتك العِرض، أو جرّهم إلى مهاوي الردى، كالكفر بالله والإلحاد والعياذ بالله، وتدمير ما تبقى لهم من قيم وأخلاقيات شحيحة، وقد تسحبهم إلى حافة الموت والانتحار أحياناً وهذا الأخطر، وهذه أمور تعمل عليها دول وعصابات دولية.
إن الكلام الذين نحذّر منه، ليس من باب التنبيه والتحذير من شيء مجهول، بل إنه أصبح أمراً واقعاً بالفعل، وإن سجلات مكافحة الجريمة في الشرطة والادعاء العام تؤكد على هذا، وإن الخطر أمسى داهماً وقائماً في كل مجتمع من مجتمعات العرب والمسلمين، وعلى الجميع العمل بجد وانتباه للحفاظ على فلذات أكبادهم من الضياع، فلن ينفع الندم بعد فوات الأوان، وعلى كل ربّ أسرة ألا ينخدع بالظن الحسن، وأن أبناءه يفكرون كما هو يفكر.
إذن.. علينا أن نكون قريبين جداً من أبنائنا، ولكن ليس بالطريقة التي تجعلنا نفقدهم الثقة في أنفسهم، بل بطريقة التحذير والتبصير من مزالق الإنترنت، والبرامج الملغمة والمدسوسة عليهم عمداً، فمن المؤكد أن ليس كل الآباء والأمهات، ملمين بكواليس الإنترنت وخباياه، ولا شك أنَّ الأطفال اليوم ذكاءهم العقلي أكثر إدراكاً في الإنترنت من آبائهم، ولكن قدرة الآباء في تقيم الأمور أكبر من الأبناء الذين يتمتعون بقدر كبير من الذكاء العقلي، فالآباء يملكون ذكاءً وجدانياً أكبر، ونضجاً عاطفياً أقوى، الأمر الذي يؤهلهم لأن يكونوا القادة المسيطرين في الأسرة.
إن الأمر لم يعد كما كان قديماً، وإن القيم والمبادئ والتقاليد التي صنعتها السَّبْلة والمجالس العامة انتهت، وقد داس عليها زمن الإنترنت والفضائيات، فاليوم إذا جلست في مجلس لن تجد من يُحيِّك كما كان، وإن الضيف الذي يأتي لزيارتك ولا يضع هاتفه في جيبه، فهو جاء مع نفسه ولنفسه، وأننا قد نخسر الرهان تماماً، إذا تركنا "الآي باد" هو الذي يعتني بتربية أبناؤنا، فسوف يتحول المنزل كله إلى روبوتات آلية من "البشر" وبلا قيم، فقد يدور الحوار في الجلسة الواحدة، ولكن حواراً بالواتساب مثلاً، فترى الناس كالسكارى يضحكون ويتمايلون، ولا يتكلمون بشيء تسمعه، وأنت تجلس بجوارهم جسدياً، وهذا ما يَجرُّنا إليه الغرب اليوم.
ختامًا.. لا يجب أن تترك الأمور تسير على عواهنها؛ بل يتوجب علينا أن نحفظ أبناءنا، وأن نساعدهم ببرمجة أوقاتهم وتربيتهم وتأهيلهم لمُستقبلهم، فيفترض فينا أن نحدد عمراً مناسباً لاقتناء هذه الأجهزة، وأن نحدد لهم أوقاتاً معينةً للعب، وتحديد الأشياء التي تناسبهم للعب، وبحسب المراحل العمرية، وأوقات أخرى للمذاكرة، وأوقات للقراءة والإطلاع، وأوقات مناسبة للحوار الاجتماعي مع العائلة، وذلك بغرض غرس بعض القيم والتقاليد المهمة، وتخصيص أوقات للخدمة في المنزل ومساعدة الأهل، وكذلك ترتيب غرفهم ونظافتها.. وبالله التوفيق.