يوسف عوض العازمي
alzmi1969@
"من لا يقرأ شيئًا على الإطلاق أكثر ثقافة ممن لا يقرأ سوى الجرائد" توماس جفرسون.
أتساءل أحياناً ما هو فهم المجتمع للثقافة، وهل هناك تعريف مُتعارف عليه للمثقفين، وهل أن تكون مثقفاً فأنت ضمنا من علية القوم، وكيف تحصل على لقب مثقف، هل هو لقب أكاديمي يؤهل إليه الإنسان بعد إجراءات علمية من دراسة وأبحاث واختبارات، أم هو لقب شرفي ليس له واقع رسمي، وهل كل قارئ مُثقف، أم أنَّ لقب المثقف يحصل عليه من يحمل شهادة أكاديمية عُليا، أسئلة كثيرة تدور في البال وعلى البال!
قبل سنوات كنت لا أحمل أي مؤهل علمي مُعتبر لم أحمل حتى الثانوية العامة، وكنت أنظر لكل متخرج من الثانوية بأنه مثقف، أما من يحمل البكالوريوس فهو في ظني بمرتبة طه حسين والعقاد!
ولما قدَّر الله وحصلت على الثانوية وبعدها البكالوريوس، تغيرت نظرتي للمُثقف، صحيح وصلت إلى مرتبة البكالوريوس لكنها في الحقيقة لم توصلني للجواب النهائي لماهية المُثقف، لا أعلم هل لو أكملت للماجستير سأحصل على الجواب أم لا؟
بصراحة لا أظن أني سأحصل على الجواب، بل وصلت لقناعة بأن لقب مثقف هو مجرد لقب شرفي، لا يقدم ولا يؤخر، أسألك بالله هل في حياتك رأيت أوسمعت بمنصب المثقف فلان؟
طبعاً لا.. كنت سأرفق مع هذه الكلمات معنى المثقف في المعاجم، ثم وجدت أن الأمر سيأخذ مساحة وبنفس الوقت متاح لأي باحث أو مهتم الوصول إلى أي معجم بطريقة سهلة، لكني تذكرت أنَّ القارئ قد يكون فاهماً لمعنى المثقف أكثر من الكاتب نفسه، أما رأيي الشخصي الخاص الذي قد يكون في دائرة الخطأ قبل مسيرة الصحيح، أنَّ الثقافة هي إمكانية وخبرة في عمل ما أو من يملك الحكمة في أمر ما، أو من جرب أعاصير الحياة ومتاهاتها، وكون تجربة ثرية قادرة لتكون نبراسا معلوماتيا للأجيال الصاعدة، فمثلاً قد يكون البائع في البقالة مثقفاً بأسعار المواد وتقلبات أسعارها ومعرفة متى ارتفاع أسعارها ومتى نزول الأسعار، وقد يكون الطبيب مثقفاً من خلال العلم والممارسة بأنواع الأمراض وعلاجاتها وما هو المرض المحتاج علاجا طبيا، وما هو المرض الذي يشفيه أوراق من الأعشاب الطبيعية، أو الأمراض التي تحتاج رقية شرعية ومسايرة ومسايسة كالأمراض النفسية مثلاً.
حتى مُهرِّب المخدرات قد اعتبره- بدرجة ما- مثقفاً- بمعنى خبيرًا- في كيفية التهريب (وهو مجرم قانونًا بلا شك)، وتتبع أحدث طرق التهريب، وكيف يصارع جهود التفتيش المستمرة من رجال الأمن، وتجده يحفظ تاريخ المهربين الأوائل، قد تجد لديه موسوعة تاريخية عن التهريب والمهربين وأحداث وحوادث بالطبع لا يمكن أن يسمح بنشرها، لكن أهل الكار يعرفونها ولا شك!!
تعال معي أخبرك أيضًا عن مثقفين من نوع آخر، هل تعلم أن سائقي التاكسي الذين من الممكن أن يكون أكثرهم لا يقرأون ولا يكتبون قد يكونون أكثر ثقافة من النخب الثقافية التي تتبوأ الصف الأول من الكراسي في أي مُؤتمر!
هل تعلم أن الدليل الأول لأيِّ بلد تسافر إليه هو سائق التاكسي، أذكر مرة سافرت إلى إسطنبول قبل سنوات، ومن حسن الحظ أن سائق التاكسي كان يُجيد العربية، تحدث معي بمعلومات قد لا يعرفها أفضل مرشد سياحي، كان فاهماً لما يقول، وأعطى انطباعا جيدا عن الإنسان التركي، وجدته يعرف بعض المعلومات التاريخية عن الدولة العثمانية، فوجئت أخيرًا بأنه لا يعرف القراءة والكتابة، لا أقول إنه لا يحمل شهادة، أقول لك لا يقرأ ولا يكتب!
صدقني اعتبره من نخبة النخبة من المثقفين، قلت في نفسي هذا لو يعرف يفك الخط ويقرأ كتب التاريخ والسياسة والاجتماع أين سيكون حاله؟
أخيرًا.. عندي قناعة تامة وأبصم بالعشرة على أن الثقافة هي تجارب حياة وممارسة، من الفشل نتعلم أكثر من النجاح، المثقف هو من نتعلم منه، من يؤسس أسرة سعيدة، ليس مهماً وضعها الاجتماعي أو مستوى دخلها، المثقف هو من يكون ذو تجارب حياتية وسعي ويقدم صورة مثالية للإنسان المعتدل دينيا واجتماعيا ويحرص على أداء الواجب مع وطنه بنزاهة وأمانة، والحقوق عند رب العالمين لا تضيع، وإن أضاعها العباد ..
الثقافة باختصار شديد صرخة في وجه الجهل، أي جهل سواء علمي أو مجتمعي أو سياسي، الثقافة ألا تكون سلبياً، أن تتسع بصيرتك لكل الآراء وتفرز منها الغث من السمين، المثقف هو من سلم النَّاس من لسانه ويده، من احترم نفسه، وعامل النَّاس كما يحب أن يعاملوه .. وهذه الأمور لا تأتي إلا من صاحب تجارب وقارئ نهم مُتمكن، والعبرة بالقراءات هي بالكيف وليس بالكم.
بالمناسبة، عباس محمود العقاد أعظم المفكرين في القرن الماضي كان يحمل الشهادة الإبتدائية فقط!