الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)
للعطر ذاكرة تُشبه تمتمات الدعاء، وأحلام العاشقين، وأنين الفاقدين، وجنان المرحومين.. لغة غريبة لا تحتاج محبرة، بل تنساب مُتغلغلة إلى خوالج النفس، مداعبة الأعصاب المنهكة ومطبِّبة المشاعر المتعبة؛ فبعضُ الطيب له رائحة كحضن الأم، أو عناق مُتيِّم، أو فراق حبيب، وأخرى بدفء المكان. ذاكرة رهيبة ومخيفة، تحملكُ معها إلى مجاهيل عوالم خِلتَ نفسَك يومًا قد نسيتها أو لنقل غامرت بنسيها، هي تمامًا كعطر "جنة الفردوس" و"الحبشوش" كعطور اشتهرت بها الجدَّات، ولا تقبل بها الآن أجيال اليوم.
فالعطور كما الحالات النفسية تمامًا، منها البربري ومنها المتوحش، ومنها المؤنس ومنها المتحضِّر، تمامًا كما الأمزجة، خاصة عطر الصباح المنعش الخفيف، وعطر المساء المغري المثير، وعطور المناسبات الثقيلة، وعطور أخرى تكون أشد لصُوقا بالأماكن كعطر "سينما" من "كريستيان ديون"، الذي يتغلل في مُخيلتي بمدينة بريزبن الأسترالية، فإذا ما فاح رذاذه بالأجواء حتى تنتابني قشعريرة تُعِيدني إلى أجزاء من ذاكرتي الزمنية، فتنتشر اللسعات الباردة.
وآآآه منك يا عطور.. إنها الرونق الذي استهوى نزار قباني، فأخذ ينطق: "العناق أن تأتي بعطر وترحل بعطرين"، وهو أداة الانتقام كما عند رحيل جوزفين زوجة نابليون، التي تركت عطرها على الوسائد والسرير لتعذِّبه بها بعد الرحيل. فلا تستغرب أنَّ لكل منا ذاكرته العطرية الخاصة، فهل تخيلت أن يكون لأنفك ذاكرة تستمتع وتنتعش وتطيب وتنفر وتكره وتمتعض، فالإنسان -كما تقول بذلك الدراسات- يستطيع أن يميز 10 آلاف رائحة، ولكن ماذا عن الذي يستهويك أنتَ؟!! لقد كان الإغريق والرومان في قديم الزمان يُعاقبون مذنبيهم بقطع أنوفهم؛ اعتقادًا منهم بأن ذلك سيثنيهم عن العَوْد لتكرار ما ارتكبوه.
... تتماهَى العطور وتتفاعل مع الجسد بطرق مختلفة، وتُنتج مزيجًا قد لا تميزه الأنوف، ولكن تتلقفه المشاعر وتدركه الحواس، وهكذا يقع الإنسان في الحب، وبالطريقة ذاتها يختار الحيوان شريك دربه.
فكم للعطور من قدرة خفية على التأثير في العواطف، وبث الشعور بالاسترخاء والطمأنينة؛ فتلك الخُزامى تمنحك الاسترخاء، وذاك الياسمين يزيد النشاط، باثَّة موجاتها داخل الدماغ، مُؤثرة على المشاعر والعواطف بشكل عجيب.. فبعض الدراسات التي قيَّمت بعض الزيوت العطرية وتأثيرها على النوم، وجدت أنَّ اللافندر مثلاً يملك قدرة هائلة على بعث الاسترخاء والمساعدة على النوم.
ويبقى أن أقول، إنك قد يكون لأنفك ذاكرة، ولحواسك ذاكرة، وقد تتعد تلك الذاكرات في دواخلك، ولكن أيها أقرب إليك، وأيها أكثر نشاطًا، هذا ما تثيره بداخلك نسمات عطر عليل، فيثير ذكرى فارقتك أو يعطر أيامًا تعيشها اليوم، أو تكشف لك سرًّا أخفيته، أو عوالم تجهلها.. كعطر تستحضره رذاذه عند الغضب، وآخر عند الفرح.. فما هو عطرك عندما تنتشي وتطرب؟ هل فكرت يوما أنَّ كل تفاصيل حياتك تمضي بين شماغ وعطر.. فالزم غرشتك ولا تبح بأسرارها.