"مِتْ فارغًا"

عبدالله الفارسي

 

قبل فترة ليست بالقصيرة قرأت كتاب "مِتْ فارغًا" لكاتبه تود هنري.. حقيقة لست من عشاق ما يُسمى بكتب التطوير الذاتي والبرمجة العقلية؛ فهي من وجهة نظري مجرد كُتب تافهة تحمل عناوين براقة ومضامين فارغة، إنها كتب للبيع والاستهلاك السوقي يستهلكها أولئك الضعفاء هزيلو الثقافة؛ فهي تبيع للقارئ نصائح وأفكارا مثالية وسلوكيات طرزانية، ولا تقدم فكرًا ولا تنشر محتوى ثقافيًا، وغالباً مؤلفوها تجار وسماسرة ومرضى نفسيين.

ولنا قصص كثيرة تثبت أنَّ خبراء ما يسمى بـ"البرمجة العقلية" هم أنفسهم يُعانون من مشاكل نفسية وعصبية هائلة، ومع ذلك نجحوا في بيع كلامهم وثرثراتهم السخيفة بأثمان باهظة جدًا في هذه المجتمعات المريضة.

ليس هذا هو موضوعي!

كتاب "مت فارغًا" يختلف عن تلك البضاعة فهو يحوي جزءًا من الفلسفة، وبعضًا من الحكمة، والتي يفتقدها كثير من كتب الإدارة وتطوير الذات؛ لأنه باختصار يركز على الذات وكيف تتعامل معها بحكمة وعناد، من منطلق القاعدة النفسية الشيهرة "الحياة قصيرة جدًا لدرجة أنها لا تكفِ لادخار المال للغد".

"مت فارغًا" باختصار شديد- ولأن رئيس التحرير دائماً يلومني على الإطالة ويرجوني ضرورة الاختصار في كتابة المقالات، ويتهمني بأنني أكثر الكتاب إطالة وحشوًا- لذلك سأختصر لكم فكرة الكتاب لأكسب ثقة رئيس التحرير وأحظى بوده، وأنال ابتسامته وأسرق رضاه!

باختصار يريد تود هنري أن يقول لنا: هناك كثير من البشر في المقابر ماتوا ودفنوا تاركين أموالًا طائلة ولم يستمتعوا بها، وهناك بشر كثر ماتوا تاركين أفكارًا لم يطرحوها تاركين كلاماً لم يقولوه، تاركين مواهبَ لم يخرجوها؛ لأنهم دفنوها في داخلهم وحرموا أنفسهم والآخرين منها.

سأضرب لكم مثالين لتقريب المعنى ورسم الصورة بوضوح: لدي صديق مُقتدر ماديًا أنعم الله عليه بوظيفة راقية وراتب عالٍ جدًا، وأيضا ورث من والده مجموعة عقارات وهبشة من الذهب والمجوهرات. المهم هذا الرجل شديد الحرص على ماله؛ لدرجة أنني قررت الابتعاد عنه، فالبخل مرض خطير ومُعدٍ.

صديقي الغني البخيل تخيلوا عمره 53 عامًا، وفي حياته لم يُسافر، لم يركب طائرة، لم يرَ مطارًا! تخيلوا رجلا غنيا لم يركب طائرة ولم يقطع تذكرة، ولم يرَ صالة مُسافرين، ولم يرَ مضيفة طيران جميلة، ولم يلمس أصابعها ولم يرو لها نكتة فيضحكها ويرى ابتسامتها ويتلذذ بتورد خديها، ولم يطلب منها حبة باراسيتامول لتخفيف الصداع الناتج من كثرة التركيز على جمالها المُتناسق، ولم يرَ السحاب وهو يتمدد باسماً ضاحكاً تحت أجنحة طائرة نفاثة. تخيلوا!!

رجل ثري لم ينزل فندقاً أنيقاً، ولم يأكل وجبة فاخرة في منتجع، ولم يستحم في حوض استحمام فاخر ليغسل جسده العفن ويلطف من رائحة إبطيه المحترقين.

أي بشر هؤلاء! أي بشر منحهم الله المال ولم يسافروا، ولم يركبوا طائرة، ولم يروا في حياتهم التعيسة مطارا جميلا، وحرموا أنفسهم من مُتعة رؤية شعوب ودول وثقافات في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية،  هؤلاء هم من يُطلق عليهم الأحياء الأموات.

مثال آخر.. قبل سنوات استأجرت منزلاً فكان جاري رجلا طيباً ميسور الحال معه سيارتين سيارة جديدة لامعة فخمة وسيارة متهالكة خردة، وكنت أندهش كثيرًا حين لا يستخدم سوى السيارة الخردة والتي يُطلق عليها أطفال الحارة "الكرمبع"، فكنت أضحك حين أراه يقودها وهو يتصبب عرقًا، والعرق يسيل من جبهته فيحول وجهه إلى باذنجان مقلي. وأنا بطبيعتي فضولي ومزعج لا أحب أن أكتم شيئاً في صدري فقلت له ذات نهار أيُّها الجار العزيز: لماذا تستخدم هذه السيارة الخردة والسيارة الجديدة الأنيقة لا تحركها أبدا؟! فقال: السيارة الجديدة استخدمها للمشاوير الطويلة فقط. فضحكت في وجهه حتى غضب، وقال لي: لماذا تضحك؟ فقلت له: لم أرك ذهبت إلى مشوار طويل منذ سكنت بجوارك قبل تسعة أشهر! أرمي هذه الخردة في البحر أو اعطها لأحد الفقراء الذين يملأون البلد، واركب سيارتك الجديدة قبل أن تُغادر الدنيا إلى مشوارك الأخير استمتع بسيارتك الجديدة قبل أن يتقاتل عليها أبناؤك. فغضب مني غضباً شديداً وكاد أن يلكمني "بُكسًا" محترمًا ويكسر أسناني الجميلة لولا ابتعادي عنه.

وبعد أربعة أشهر من تلك المُحادثة وصلني خبر وفاة جاري الميسور، فقد توفي فجأة، ومن اليوم الأول للعزاء بدأت السيارة الجديدة المُخبأة تخرج وتتحرك وتتجول في شوارع الحارة.

وذات نهار وأنا اتسكع في صناعية المدينة المهلهلة، والمزروعة في وسط المدينة كمصيبة دائمة، رأيت سيارة المرحوم جاري القديمة وهي مرمية كأنها جيفة عفنة!

هذا هو ما يقصده الكاتب بـ"مِت فارغًا".. استمتع بكل ما تملك، سافر إذا كان لديك مبلغ يكفي لتذكرة سفر ومصروف جيب، دلل نفسك قبل أن يدللك الدود ويدغدغ أمعاءك. اشترِ سيارة جديدة وجميلة إذا كان لديك مبلغ في البنك يكفي لشراء سيارة. اكتب إذا كنت تعشق الكتابة، اقرأ إذا كنت تتقن القراءة، اشترِ فاكهة إذا كنت تعشق الفاكهة، غنِ إذا كنت تحب الغناء، حقق رغباتك إذا كنت تملك ما يُحقق تلك الرغبات، فأنت راحل عن هذه الحياة.

عش حياتك وأفرغ فيها كل ما وهبك الله إياه، ثم مِتْ فارغًا بعد ذلك. لا تمت وفي نفسك شيء كنت تستطيع فعله ولم تفعله، كنت تتمنى فعله ولم تفعله. افعل ما ترغب وتتمنى أن تفعله إذا كان لا يسبب أذى للآخرين وليس فيه ضرر للناس ولنفسك. لا تمت وفي قلبك شيء كنت تريد أن تقوله ولم تقله. أخرج كل ما في نفسك في هذه الحياة، ومت فارغاً خالٍ تمامًا من كل شيء، فليس هناك مكان تمارس فيه مواهبك وقدراتك الدنيوية سوى هذه الدنيا؛ لأن الآخرة لها برامج ونظام آخر وسيكولوجية وبيولوجية تختلف تمامًا عن بيولوجيات وقدرات الدنيا.

تخيلوا! هناك أُناس تموت وفي رصيدها آلاف الريالات، وهو لم يسافر إلى دولة من دول العالم ولم يركب طائرة.

تخيلوا! هناك أناس متعلمون طوال عمرهم لم يقرأوا كتابًا، وبجانبهم كتب ومكتبات وماتوا ولم يستمتعوا بلذة القراءة ومتعتها.

تخيلوا! هناك أناس يملكون الكثير من الحب والكثير من العاطفة ولم يمنحوها لأحد.

أناس معهم العلم والفكر والثقافة ولم يقدموه لأحد.. أناس معهم المال الوفير ولم يستمتعوا به ولم يمنحوه لغيرهم ليسعدوا به من حولهم.. أناس معهم الخير الكثير ولم يستغلوه الاستغلال الأمثل ولم يستخدموه الاستخدام الأجمل.

هؤلاء هم من يخاطبهم الكتاب، فرجاءً دعونا نمت فارغين.