د. محمد بن عوض المشيخي
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
قبل عقدين من الزمن أفردت مجلة "التايم" الأمريكية ذات الانتشار العالمي الواسع، على غلافها الخارجي عنواناً بالخط العريض "آخر أيام طالبان"؛ واليوم يُشاهد العالم من أقصاه إلى أقصاه نهاية أمريكا وهزيمتها المدوية في أفغانستان وانتصار طالبان على القوى العظمى ذات الترسانة العسكرية الأولى والقوة الضاربة في هذا الكون.
هذا البلد المُسلم الذي يقع في آسيا الوسطى ويتميز بالجبال الوعرة التي ساهمت في دحر الغزاة والمحتلين على مدار التاريخ بداية بهزيمة الإنجليز، ثم الاتحاد السوفيتي الذي خسر أكثر من 15 ألف قتيل، واليوم يجر الأمريكان وحلفاؤهم من دول حلف شمال الأطلسي ذيول الهزيمة بعد الهروب الكبير. فحركة طالبان التي شغلت العالم منذ قيامها في مطلع تسعينيات القرن الفائت تعود من جديد إلى الأضواء. فهؤلاء الذين ينتمون لطلبة المدارس الإسلامية في أفغانستان هم الذين يطلقون على أنفسهم (طالبان) التي تعني بلغة البشتون جمع طالب. وكان غاية مؤسسها الملا محمد عمر، مواجهة أمراء الحرب في البلاد الذين شكلوا مليشيات بعد الانتصار الكبير على الوجود السوفيتي، فكانت البداية من جنوب البلاد ومعقل البشتون الذين يشكلون أكثر من 43% من الشعب الأفغاني، ويعتبرون أكبر قومية والتي كانت الحاضنة الأساسية، لانطلاق الحركة من مدينة قندهار. فهؤلاء القادة من الأفغانيين تقاسموا الغنائم وقطعوا أوصال ذلك البلد لمصلحتهم الخاصة، إذ وضعوا أتاوة وضرائب مرور على المواطنين المسافرين من منطقة إلى أخرى.
وبالفعل استطاعت حركة طالبان كسب العقول والقلوب والوصول إلى الحكم في 1996 بعد السيطرة على العاصمة كابول بدعم كبير من الشعب الذين تجاوبوا مع الحركة وآمنوا بمشروعها الإسلامي. ولكن بعد مرور بضع سنوات تم إسقاط هذه الحركة وإقصاؤها عن الحكم، وذلك في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 التي استهدف فيها تنظيم القاعدة برجي التجارة العالمية في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"؛ إذ وصلت طلائع القوات الأمريكية والفرنسية والبريطانية والكندية والأسترالية والتركية وكذلك دول أخرى حليفة لأمريكا إلى مختلف المدن والمناطق الأفغانية معلنة عن وضع البلد بأكمله تحت الاحتلال؛ مبررهم في ذلك القضاء على تنظيم القاعدة وقادته مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. كما إن هناك أهداف أمريكية غير معلنة تتمثل في إقامة قواعد عسكرية بالقرب من روسيا والصين، خاصة الأخيرة التي تربطها حدود برية بأفغانستان تبلغ 76 كيلومترًا.
من هنا تحولت حركة طالبان إلى حرب العصابات واستزفت من خلالها الوجود الأجنبي وبلغت خسائره نحو 2448 قتيلا، والآلاف من الجرحى طوال عشرين سنة، هذا فضلا عن التكلفة المادية التي وصلت إلى تريليون دولار.
من المفارقات العجيبة، أن عدد مقاتلي طالبان لا يتجاوز 75 ألفًا، ولا يوجد لديهم دبابات أو طائرات مقاتلة؛ بينما بلغ عدد أفراد الجيش الأفغاني التابع للحكومة- والتي أنفقت الحكومة الأمريكية لتدريبه أكثر من 90 مليار دولار- حوالي 350 ألف جندي، فضلاً عن وجود أسلحة غربية متطورة جلبها لهم الأمريكيون والأوربيون. لاشك أن عزيمة الشعب الأفغاني وإرادته الصلبة كانت خلف هذا النصر المبين الذي يشير إلى أن مصير المعتدين والمستعمرين أن يذهبوا في النهاية إلى مزبلة التاريخ عاجلا أو آجلا.
إن السيناريو الفيتنامي المخزي المتمثل في الانسحاب الأمريكي السريع وغير المنظم أو المتوقع من ذلك البلد الشيوعي الذي انتصر على الترسانة الأمريكية وعجل بانسحاب الجنود وكذلك الدبلوماسيين الأمريكيين بطريقة دراماتكية عام 1975؛ قد حدث مرة ثانية في أفغانستان، فمنظر الطائرات العمودية التي تنقل آلاف المخبرين والدبلوماسيين من على سطح مباني السفارة الأمريكية في كابول إلى المطار؛ قد كشف عن الهروب الجماعي والخوف والهلع اللذين يسودان أوساط هؤلاء الغزاة؛ وكذلك عن سوء الإدارة والتخطيط لهذه الدول الكبرى خاصة في مواجهة الظروف الصعبة وإدارة الأزمات أثناء الحروب.
لقد شعر الرأي العام الأمريكي بالصدمة لسقوط العاصمة كابول في يد طالبان دون مقاومة، وهروب الرئيس أشرف غني خارج البلاد، بينما كانت توقعات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) صمود المدافعين عن العاصمة الأفغانية لمدة 3 أشهر على أقل تقدير.
هناك اعتقاد على نطاق واسع بأنَّ قادة طالبان الحاليين أمثال؛ الملا هبة الله والملا عبدالغني برادر وسراج الدين حقاني يتمتعون بمصداقية عالية جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية تحاورهم وتوقع "اتفاق الدوحة" مع الحركة، كما إن هناك من يزعم أن الحكومة الأمريكية طلبت مساعدة طالبان في مواجهة الصين خلال السنوات المقبلة.
لقد شاهد العالم عبر شاشات التلفزيون لحظة دخول قادة حركة طالبان القصر الرئاسي قبل أيام قليلة، بشكل سلمي، مما أعطى انطباعًا إيجابيًا لسمعة هذا البلد العريق. ولعل إعلان العفو العام عن جميع المنتسبين للجيش وأعضاء الحكومة السابقة- كما شمل العفو العام جميع أفراد الشعب الأفغاني حتى الذين كانوا يعملون مع القوات الأجنبية كمترجمين ومخبرين وغيرهم- كل ذلك عكس التزام أعضاء الحركة بالقوانين والأعراف الدولية. لقد جرت العادة في معظم ثورات العالم، أن يبطش المنتصر بالمهزوم، مما يترتب على ذلك حدوث حروب أهلية من جديد بين فئات المجتمع والانزلاق إلى حمام الدم من جديد. ولعلنا نتذكر جميعاً قيام حركة طالبان بإعدام الرئيس محمد نجيب شنقًا في كابول عام 1996.
كما إن رفاق الأمس من الثوار قد يتحولون إلى أعداء بسبب المصالح والبحث عن المكاسب؛ فهناك مقولة شهيرة تقول "الثورة تأكل أبناءها" كما حصل في العديد من ثورات العالم التي نجحت في طرد الأجنبي وفشلت في توزيع المناصب والتوافق بين أفرادها لمصلحة الوطن وتحقيق أهداف الثورة وإقامة السلم الوطني.
لا شك أن أفغانسان بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للعالم الخارجي، لكونها تعتمد في 75% من موازنتها السنوية على المساعدات الدولية، وعلى الرغم من ذلك أكثر من 50 بالمائة من الشعب تحت خط الفقر، كما وصلت نسبة البطالة إلى أكثر من 40 بالمائة من القوى العاملة في هذا البلد الفقير.
وفي الختام.. يجب أن يدرك قادة طالبان أن المجتمع الدولي يراقب أفعال الحركة وتصرفاتها في إدارة هذا البلد المنكوب الذي غاص في الدماء، وأرهقته الحروب المتتالية خلال الأربعين سنة الماضية، فعلى هؤلاء القادة أن يتعلموا من دروس الماضي القريب، وخاصة في مجال احترام حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات والقوميات المختلفة على وجه الخصوص؛ فهؤلاء شركاء في الوطن يجب عدم إقصائهم من المشاركة في مستقبل أفغانستان، وقبل ذلك احترام حقوق نساء أفغانسان في التعليم والعمل والمشاركة في إدارة البلد، فالمرأة نصف المجتمع، وذلك من خلال ضوابط الدين الحنيف الذي يكفل حقوق الجنسين للعيش حياة كريمة، بعيدا عن العادات والتقاليد البالية التي جلبت لهذا البلد المسلم الكثير من المتاعب والعزلة والعار.