مُتعايشة

 

الطليعة الشحرية (حالوت أليخاندرو)

أشياءٌ لا تُنسى، وأوجهٌ عصيَّة على ذاكرة النسيان، قد تتوارى لبعض الوقت في قاع العقل، وقد كانتْ هي أحدها. كطالبةٍ مُتدربة، كُنت مُتحفزة للإنجاز والعمل، وتحقيق أقصى دراجات النجاح، وأشرفتْ هي عليَّ عن بُعد، كانت ذابلة، صامتة: هل خذلها الزمن؟ أم خذلها البشر؟

القَهْر يمشي على قدمين ولم أكن أعرف كيف ذاك (!) كيف للبؤس أنْ يكون بُردة تلف صاحبها من رأسه لأخمص قدميه. تنكمشُ ألوان الحياة دونها، وتقفُ عندها كحدٍّ فاصلٍ بينها وبين الدنيا، لا تُزينها بألوانها الزاهية. اعتقدتُ بادئ الأمر أنَّ مرارة تجرُّع أقداح الفقد عبر السنين، هي ما يكسر فوانيس الدنيا الباهية، ولكن دوماً هنالك تفاصيل تسقط سهوًا.

... إنَّها متعايشة مع مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، لم تَسعَ قدماها يومًا للذة، بل انتقل إليها من شريكها، ونقلته هي دون إدراك لطفل تحمله في رحمها، وطفلين آخرين ترعاهُما. انتهى عذاب الجميع بموتهم، وهي التي -أطالَ الله بعمرها- تُراقب بعَجْزٍ مواراة الواحد تلو الآخر، تصارع غريزة الحماية لمن حملتهم برحمها شهورًا، دون جدوى.. قدَّر الله وما شاء فعل.

عملتُ تحت إشرافها لمدة شهر، وكانت حريصة جدًّا أن لا أقترب من أغراضها الشخصية، وأن يكون التباعد الجسدي مقبولًا، وإذا ما جلسنا سويًّا أوقات الاستراحة، تَختار زاوية بعيدة بمُسافة مناسبة كي لا تلوِّث الهواء الذي يُحِيط بي. كم هي المسافات التي اضطرت للحفاظ عليها منذ شُخِّصت بالمرض؟ ومَن وضع هذه المسافات؟ هل هي من وضعها أم عائلتها أم المجتمع؟

اقتحمت حياتها مسافات ومحاذير ورحلة هروب من سخط الجميع واشمئزاز المُقربين، غدا الأهل غُرباء.. أمها، وأختها التي شاطرتها سرير الصِّغر، والأخ الذي قاسمها يومًا مائدة طعام واحدة.

هي لم تفقد فلذات كَبدِها بسبب المرض فحسب، ولكن تحتَّم عليها أن تعيش ما تبقَّى لها من حياة في سقوط وابتعاد.. فلكَم عانتْ مسافات من البُعد لتحقيق الأمان بينها وبين أهلها.

هُناك تفاصيل صغيرة.. حُروقٌ لا تُرى ولا تظهر، مُخلِّفةً في نفس كل إنسان ندبة، وبين هذه وتلك، هناك من يبحث عن ندب الآخرين، يتلذَّذ بالضغط عليها، بينما هي لم يكن يهتمُّ أحد بأن يسمع تفاصيلها؛ فكلمة "مُصابة بنقص المناعة" كفيلة ببث الهلع فيمن حولها، وإشهار أسلحة التجريح والبصق والاستحقار. الكل يُصبح عظيما وشريفا غير قابل للتلوث عندما يجد فريسة.. لكنَّ عظمة هذه الحياة تكمُن في سُخرية الأقدار، فقد تشمت اليوم وتحمل غدًا تلك الندبة التي كنت تعاير بها أحدهم، لكنك لا تأخذ العِبرَة.

----------

ما أسهل التمني...!

سألتُها يوماً عن أمنياتها؟

فأجابت: الموت بسرعة.

----------

ماذا بعد؟ ماذا يأمل المتعايش من طول الحياة؟ تُخَاصِمك الحظوظ وتُصبح بمرضك العدو لمن تُحب (!) آآآآآه.. كم يا تُرى مرة قدحت في خاطرها فكرة الزوال والنهاية؟ وهل أقدمت على المحاولة بالفعل؟

الحقيقة الطبية تقول إنَّ المُتعايش يستطيع أن يمارس حياة طبيعية ويتزوَّج ويُنجِب وفق ضوابط واشتراطات ومتابعة طبية، والواقع المجتمعي يفرضُ العكس.. النبذُ والاستحقار للمتعايشين قتلٌ بَطيء، وعدم فهم البعض للتشخيصات المرضية وكيفية التعامل مع المصابين قتلٌ مُتعمَّد لمبتلى لم يختر الإصابة، بينما نُقِل إليه بالخطأ.. إما بالحجامة الملوثة، أو موس حلَّاق، أو دم ملوث نُقل إليه وقت حاجته لمن يمده بشريان للحياة.

ارتقوا.. فقاع السطحية مُزدحم، وتعلَّموا من المتعايشين كيف نتعايش، واحمدوا الله على كل حال.