علي الرئيسي **
** باحث في الاقتصاد وقضايا التنمية
انتشرت منذ فترة العملات الرقمية الخاصة، كإحدى الأدوات الاستثمارية، مثل عملة "بتكوين" وغيرها، وتتصف هذه العملات الرقمية بالتذبذب الكبير في السعر وأنها غير مدعومة من أية جهة رسمية.
البنوك المركزية على المستوى العالمي، بدأت في إجراء تجاربها لإصدار عملاتها الرقمية، وقد أجرى بنك التسويات الدولي "BIS"- في تقريره السنوي لعام 2021- استبيانًا بين البنوك المركزية، واتضح من ذلك الاستبيان أن 86% من هذه البنوك تقوم بإجراء تجارب ودراسات حول إمكانية إصدار عملة رقمية، واتضح أن 60% من هذه البنوك تجري تجارب على هذه التقنية، و14% لديها مشاريع تجريبية "Pilot Project".
في السنة الماضية، أصبحت جزر البهاما أوَّل دولة تصدر عملة رقمية للاستخدام العام، وفي أبريل من العام الجاري كان اتحاد شرق الكاريبي، أول اتحاد نقدي يصدر عملة رقمية. وبحسب تقرير بنك التسويات الدولي فإنَّ 48 بنكًا مركزيًا- على الأقل- يجرون حاليًا تجارب عملية لإصدار عملات رقمية.
وتتميز العملة الرقمية الصادرة من أي بنك مركزي بأنها عملة رقمية رسمية مدعومة حكوميًا، وقابلة للتبادل والتداول والتعامل معها كأداة للدفع بين كافة المتعاملين في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وبالتالي ستمنح هذه العملة السلامة والكفاءة لمجمل عمليات الدفع؛ سواء كانت عمليات التجزئة أو الكلية.
وغالبية العمليات التي تُجرى في المصارف حاليًا هي عمليات رقمية، والنقود تُشكِّل في الغالب جزءًا بسيطًا من مطلوبات البنوك المركزية؛ نظرًا لانتشار التقنية والتحويلات الرقمية. كما إنَّ معظم العملات الرقمية حاليًا، عبارة عن ودائع لدى البنوك التجارية، ومعظم الأفراد والمؤسسات غير المالية لا يمكن لهم الولوج والاستفادة من العمليات المباشرة مع البنوك المركزية؛ أي أنَّ البنوك المركزية لا تتعامل مباشرة مع الجمهور والمؤسسات غير المالية.
لكن.. ما الأساليب المتوقع اتباعها عند إصدار البنك المركزي لعملة رقمية؟
هذا يعتمد بصورة ما على مدى منح المؤسسات غير المالية والأفراد، إمكانية الاستفادة من مطلوبات البنك المركزي. طبعًا هناك سيناريوهات مختلفة منها أن يكون التعامل مع العملة الرقمية مباشرة؛ حيث يتعامل الأفراد والمؤسسات المالية مباشرة مع البنك المركزي، ويقوم البنك المركزي بالتعامل بعمليات الدفع بالتجزئة، وذلك عن طريق إيجاد بوابات إلكترونية للدفع؛ أي أن تقوم المؤسسات غير المالية والأفراد بالإيداع والدفع عن طريق البنك المركزي، أو يمكن ألّا يكون هناك تعامل مُباشر بين الأفراد والمؤسسات المالية، وأن تقوم البنوك التجارية بعمليات الوساطة المالية، وذلك باستخدام العملة الرقمية للبنك المركزي عوضًا عن النقود والعملات الورقية.
الفوائد التي تُساق من أجل هذا النموذج تتمثل في الاستفادة من العقود الذكية، وإنشاء بيانات إلكترونية للمعاملات "Blockchain Ledger"،وشمولية المعاملات المالية؛ أي أن تشمل الوساطة المالية الفئات المهمشة في الاقتصاد، بمن فيهم المنخرطون في الاقتصاد غير الرسمي. وهناك أيضًا فوائد صحية من عدم استعمال العملات الورقية التي قد تكون ناقلة للأمراض، والسيطرة على المعاملات غير القانونية التي يُستخدم فيها النقد والعملات الورقية. كما إن العملة الرقمية تمنح البنوك المركزية مزيدًا من السيطرة والقدرة على اتباع سياسات نقدية معاكسة للدورة الاقتصادية.
وتعظيم مثل هذه المكاسب يعتمد على قدرة البنك المركزي على خلق بيئة إلكترونية، خاصة بالنسبة لنظم الدفع ذات كفاءة عالية، وأن تكون تلك العمليات ذات كلفة معقولة.
في المُقابل، فإنَّ أبرز السلبيات تتمثل في ما ستسببه العملة الرقمية من ضرر للنظام المصرفي، وبالتالي على مجمل الاقتصاد.
ويحذر البعض من أن ذلك سيُقلل من عمليات الوساطة المالية، وأن الودائع ستذهب مباشرة إلى البنك المركزي، مما سيتسبب في إفلاس المصارف؛ لأن المصارف عادة تقدم القروض والتسهيلات من خلال الأموال المودعة لديها من الأفراد والمؤسسات، وإصدار عملة رقمية تُتداول مباشرة بين الأفراد والمؤسسات غير المالية، سيؤدي إلى هيمنة مُطلقة للبنك المركزي على القطاع المالي.
كما يدق بعض الخبراء ناقوس الخطر من إصدار البنك المركزي لعملته الرقمية وتعامله مباشرة مع الجمهور؛ حيث سيغير ذلك من طبوغرافية النموذج المصرفي كما عرفناه منذ 800 سنة. وهناك من يشكك من أن المنافع التي ممكن أن يستفيد منها الاقتصاد والمجتمع من تطور كهذا، ليست منظورة إلى الآن.
ومن ناحية أخرى، هناك من يزعم أن ثمة فرص أكثر من المخاطر، وأن هذا التطور سيقضي على الهشاشة التي يتصف بها النظام المصرفي حاليًا، وبالتالي ستقضي أو ستقلص من الأزمات المالية التي اتصف بها النظام، كما سيكون النظام المصرفي أعلى تنافسية. ويرى الدكتور روجر فارمر من جامعة "ووريك Warwick" أنَّ إصدار البنك المركزي لعملة رقمية واحتكار الدولة لهذا النوع من العمليات، يُعد استجابة منطقية تجاه انتشار العملات الرقمية الخاصة.
وفي النهاية، تبقى المسألة خاضعة للجدل؛ حيث لا يرى الكثير من المُراقبين فائدة كبيرة للاقتصاد من العملات الرقمية، وكذلك بالنسبة للمصارف والمجتمع من هذا التوجه.