هل قبلت الصحافة الورقية التحدي؟

عبد الله العليان

في مُنتصف التسعينيات من القرن المُنصرم، بدأ الحديث عن الثورة المعلوماتية في عالم الإعلام ووسائل الاتصال، وبروز البيئة الافتراضية لشبكة الإنترنت، وغيرها من وسائط الاتصال الرقمي، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الفضاء المفتوح بكل قوة وانتشار، وتحدث الكثيرون من المُهتمين عن الصحافة؛ كونها الوسيلة الوحيدة التي قد تتأثر من دخول هذا الوليد الجديد في عالم الإعلام ووسائله المختلفة.

ولقد جرى الحديث عن توقعات وتنبؤات باختفاء الصحافة الورقية في غضون عقود قليلة، وستبقى فقط الصحافة الإلكترونية، مع وسائط التواصل الأخرى، وما يتبعها من وسائل مصاحبة لها في عالم الثورة التكنولوجية الحديثة. ولاقت هذه التنبؤات الكثير من القبول والجزم، وأنَّ الصحافة الورقية لن تصمد كثيرًا إزاء هذه التطورات الجديدة وقوة تأثيرها على الشعوب التي ستتعامل مع هذه الوسائل.

لا شك أنَّ بعض الصحف تأثرت مما حصل من هذه التطورات التكنولوجية في الجانب الإعلاني، وأغلق بعضها لأسباب متعددة، وحصل أن تحولت بعضها إلى صحافة إلكترونية، وتم الاستغناء عن بعض الصحفيين في عدد من الصحف، في دول عدة، ومنها بلادنا العربية.. لكن البعض يعتقد أن ما جرى لبعض الصحف من أزمات مالية، منذ منتصف العقد الماضي واستمر حتى الآن لبعض الصحف والمجلات، ليس بسبب الجديد الوافد في عالم الإعلام والاتصال، لكن السبب الأساسي الذي ساهم في مشكلات هذه الصحف والمجلات الورقية، أن الأزمة المالية كانت عالمية وتأثر بها العالم كله، من خلال انخفاض أسعار النفط، وبسبب الصراعات الدولية، أو ما يُسمى بحروب النفط بين المتنافسين، وكان هو المسبب الأول لإغلاق بعض هذه الصحف، أو تحولها إلى صحف إلكترونية. فبعض الصحف، لم تستطع مواجهة الأزمة المالية، فاضطرت إلى إعلان الإفلاس لعدم استطاعتها مواجهة المشكلة المالية، وبعضها دخل في شراكة مع مؤسسات صحفية أخرى لمواجهة هذه الأزمة.

لكن هذا التحدي لم يكن قاتلاً للصحافة الورقية، ولم تقبل الكثير من الصحف بهزيمة ساحقة، وقبلت التحدي بالصمود والتجديد، وجمعت بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، واستطاعت أن تجمع بين الاستمرارية في أسلوبها في الطباعة الورقية، والحراك في العالم الافتراضي، من خلال وجودها إلكترونيًا، وهذا في حد ذاته مواجهة كل المستجدات، وعدم الهروب من واقع لا مفر منه. ومهما جرى من تشاؤم عن عدم مقاومة الصحافة الورقة، فإنها أثبتت في أغلبها أنها قادرة على مواصلة مشوارها والتجديد في مضامينها السياسية والفكرية والثقافية. وقد سبق أن كتبتُ مع بداية الحديث عن التحدي التكنولوجي، وقلت: إن من المهم أن نستعد لكل جديد في هذا الفضاء المعلوماتي، فلا مفر من التعامل مع هذا الواقع الجديد الوافد، وهذا بلا شك تحدٍ للإعلام التقليدي، وهذا الجديد التكنولوجي بكل إمكانياته الرهيبة سيربك ما هو مستقر في عالم الإعلام، وسيكون له تأثيره على الكثير من المؤسسات الإعلامية، ولا مهرب أو عزلة من ذلك؛ بل يجب اتخاذ ما يكون ملائمًا بما يسهم في صمود هذه المؤسسات، من خلال تحريك وتنشيط هذه الصحف، بما يسهم في إقبال الجهور على الصحافة الورقية.

ومع القول إنَّ الصحافة الإلكترونية هي التي ستبقى قائمة في ظل عالم المعلوماتية، إلا أن الواقع يشير إلى أن ذلك ليس سوى توقعات، دون أن يكون متحققاً فعلياً، فالكثير من هذه الصحف الإلكترونية الخالصة، لم تستطع الصمود، بسبب قلة الإعلان في هذا الفضاء المفتوح، وبالعكس فإنَّ الصحف الورقية كسبت المعلن، باختيارها الطباعة الورقية، والموقع الإلكتروني جنبًا إلى جنب، وبعض المحللين يرون أن بعض الصحف الإلكترونية واجهت أزمات فعلية، لأنها اختارت موقعاً افتراضياً فقط، بينها أغلب الصحف الورقية، جمعت- كما أشرنا- بين هذا وذلك، وهذا حقق لها نجاحاً واستمرت دون عثرات وأزمات مالية، مع تجديدها لوسائل دافعة للنجاح، من خلال المقالات الفكرية والسياسية والاقتصادية، إلى جانب التحقيقات، والحوارات، والتقارير الجديدة حول المستجدات المختلفة في عالم اليوم.

ومن الباحثين الذين ناقشوا هذه القضية، الكاتب جودت هوشيار، الذي يرى أنَّ  دور الصحافة الورقية في "زمن الصحف الإلكترونية في العصر الحاضر سيظل، ولن ينتهي قريباً كما يزعم المتشائمون، ولكن على الصحف تأهيل نفسها للعصر الرقمي والإطلالة على العالم بنسخ إلكترونية لها على الإنترنت، لأنَّ المواقع الإلكترونية هي نافذة الصحافة الورقية للقراء. وثمة مفارقة بالغة الدلالة على حيوية الصحف الورقية وهي أن كثيراً من الصحف التي بدأت بداية إلكترونية فقط، توجهت بعد ذلك إلى الطباعة الورقية، ويبدو أن العلاقة المتبادلة بين الوسيلتين الورقية والرقمية ماضية إلى مزيد من التجسير والتكامل رغم المنافسة الشديدة القائمة حاليًا بينهما".

إذن.. كل ما قيل عن انتهاء عصر الصحافة الورقية، مجرد توقعات لظهور عالم الفضاء الرقمي المفتوح، وهو بلا شك قوة اتصالية مؤثرة في عالم الإعلام، لكن تظل الصحافة المكتوبة رصيدها في العالم الواقعي، لا يمكن أن تزيحه وسائل اتصالية جديدة، إذا ما استطاعت هذه الصحف الورقية أن تواكب كل جديد في عالم المعلوماتية الزاحف على هذا العصر بكل ثقله وتأثيره.