العزيز سعود وصلالة الفاتنة

عبدالله الفارسي

 

طبعاً لا تعرفون العزيز سعود، ولكنكم تعرفون صلالة الفاتنة، سأسرد لكم قصتهما هنا.

اتصلت بصديقي العزيز سعود أبي حمد؛ لأخبره أنني أفكر بالقدوم إلى صلالة ولكنني سمعت بأنَّ نصف سكان عُمان انتقلوا هناك! فقال لي سعود: العين تشيلك والقلب يضمك يا أبا يزيد. طبعاً لا يقول مثل هذه العبارة أي إنسان عادي، سعود ومن يحمل مثل قلبه هم من ينطقونها فقط لأنها عبارة صعبة على الألسن الملوثة عصية على القلوب المغشوشة. سعود يقولها ويفعلها، فقلت له: المُهم هل يوجد مكان في "جبل أتين" لنفرش حصيرنا فيه؟ فضحك بجمال ملاك وعذوبة طفل، وقال: "صحيح الزحمة شديدة في صلالة هذه الأيام لكن صدورنا أوسع من جبل أتين يا صديقي".

ما أجملك يا سعود.. أنت يا سعود صدرك أوسع من جبل أتين لكن الغالبية الذين اصطدمنا بهم صدورهم أضيق من جحر جربوع! قلت للأولاد جهزوا حقائبكم سنذهب إلى صلالة الفاتنة.

بعد سياقة 12 ساعة، وبرفقة درجة حرارة تجاوزت 45 درجة مئوية طوال الطريق من مدينة صور إلى صلالة، وصلنا ثمريت، فبدأت تباشير الخريف تهل علينا، انخفضت درجة الحرارة تسع درجات، وارتفعت درجة برودة المكيف، وبدأت أعصابي في الاسترخاء؛ لأني كنت قلقًا من غدر الإطارات وخيانتها المُباغتة.

أكملت إطارات سيارتي أكثر من ثلاث سنوات ولم أتمكن من تغييرها. فحين أرتطم الماء ورذاذ صلالة الفاتنة بالإطارات تنفست الصعداء، صعدنا الجبل، وعانقنا الضباب واحتضننا الرذاذ والبرد.

منظر خيالي يخلب الألباب.. لا يُمكن أن تتخيله وأنت قبل ساعة بالضبط كنت تسير في درجة حرارة قريبة من درجة التبخر. إعجاز مناخي عجيب ونادر!

تواصلت مع سعود، وأنا في مدخل صلالة وفي حضرة الضباب وضيافة الرذاذ: "أرسل لي موقعك أيُّها العزيز سعود"، ثم التقينا بعد طول غياب.

سأخبركم عن العزيز سعود، هذا الرجل من منح الحياة النادرة التي حصلت عليها، إنه إحدى أكثر العطايا الربانية روعة وجمالًا.

سعود من الأشياء النادرة جدًا والجميلة جدا التي زرعها الله في طريقي لأعيش وأكمل حياتي باطمئنان وسط هذا الكم الهائل من اللامعقول واللامقبول.

سعود صديق رؤوف شفوق حنون وشاعر أيضًا، إنسان جميل جدا يحمل قلب عاشق، وروح ملاك. تقف أمامه مذهولا مندهشا، لا تعرف كيف عجنته السماء بهذه الطريقة. كيف اجتمعت كل هذه التشكيلة الأخلاقية النادرة الفريدة في شخص واحد إنه كصلالة لحظة خريفها فاتن للغاية.

حجز لي سعود العزيز شقة صغيرة في بناية "سلطانة" الجميلة في حي السعادة الرائع دون أن أتكبد عناء البحث عن شقة فى ذروة موسم الخريف وصخبه؛ فالحصول على شقة في صلالة هذا الصيف تحديداً كان من المهام الشاقة والعمليات شبه المستحيلة.

ليس هذا فحسب؛ بل أصرّ بألّا اقترب من إدارة البناية أو حتى مُجرد التخاطب معهم، وقال لي إياك ثم إياك أن تفتح محفظتك أمامهم. استقبلني سعود بابتسامته الرائعة المعتادة أمام باب تلك البناية الفارهة وأحضر لي وجبة عشاء فاخرة، وقال لي تعشْ ونم، وغدًا سنلتقي فأنت قادم من مشوار طويل ورحلة ساخنة مرهقة.

أحرجني العزيز سعود بهذه الأخلاق الدمثة وبهذا الكرم الحاتمي ووضعني وعائلتي في مأزق كبير وحيرة عظيمة، كيف سأرد هذا الجميل وكيف سأسدد هذا الجمال الغزير؟

قضينا أسبوعًا جميلاً في صلالة الجميلة والتي كانت ترتدي عباءة خضراء ناعمة كالحرير وستارة من الضباب والرذاذ والسحاب، بينما أخواتها العُمانيات الأخريات يرتدين اللهب ويلتحفن الغبار والقيظ والهجير.

آهٍ يا صلالة.. ما أروعك من مدينة. قال لي أحد الكويتيين ذات صيف: "موسم الخريف في صلالة موسم نادر جدًا من أندر المواسم المناخية في العالم".

قلت لسعود: أريدُ أن اتخلص من الملح المتكدس في ظهري واقتلع الحراشف النابتة في جسدي منذ سنتين، فقال لي: جبل أتين وعين رزات وجرزيز والمغسيل، كلها أماكن رائعة لغسل جسدك من الأملاح، وتطهير روحك من الغليان والضجيج.

فباشرت التجوال في صلالة الرائعة متنقلاً بين ضبابها ورذاذها وجمالها مستمتعًا بخرير مياهها، وروعة هوائها وعذوبة سمائها ونسماتها. وأنا متمدد في حصيرتي، يصافحني الرذاذ ويدغدغني الهواء العليل وفي لحظة هدوء واسترخاء واستمتاع مُطلق بجمال الخريف الصلالي، فكرت في أولئك المواطنين الفقراء الذين لم يروا صلالة أبدًا، وأولئك الذين ماتوا ولم يكحلوا عيونهم بصلالة وهي عروسة في فترة زفافها الخريفي، لم يروا جمالها الأخضر ولم يروا عيونها المُتدفقة ماء، المنسابة بردا من السماء.

تمنيتُ لو كنت تاجرا كبيرا ومليونيرا عظيما، لأنظِّم رحلات خريفية مجانية مكفولة النقل والسكن والتجوال لمئات العمانيين الفقراء كل خريف، حتى لا يبقى عماني واحد لم يرَ صلالة ولو مرة واحدة في حياته.

ليتني أستطيع...

هبت نسمة باردة مصحوبة برشة رذاذ كثيفة غسلت وأطفأت تلك الفكرة المؤلمة التي أحرقت صدري.

أسبوع واحد في صلالة كفيل بغسل الرؤوس المتخمة من العناء والضنك والشقاء، وكنس الهموم المتراكمة في النفوس طوال العام، كيف لا، وهي المدينة التي يعشقها الضباب، وتسكنها الملائكة، ملائكة حقيقيون من نوعية العزيز سعود أبي حمد.

شكرًا صلالة الفاتنة.. وشكرًا سعود العزيز.. شكرًا من الأعماق.