قوانين حمُورابي

علي بن سالم كفيتان

في عام 1790 قبل الميلاد صاغ ملك بابل السادس، الملك حمورابي، مسودة قوانينه المكونة من 282 مادة على عمود مسلة حجرية بالخط المسماري على أرض سوسة عاصمة عيلام واعتبرت قوانين حمُورابي من بين أوَّل النصوص التشريعية التي تنظم السلطات بين الحاكم والمحكوم، لكنها ورغم مُقدمتها الرائعة التي أشارت بوضوح لمنع الأقوياء من ظلم الضعفاء، وهدفت لنشر النور في الأرض، لم تجرم نطح الثيران في الأماكن العامة، فإذا نطحك أحدهم في مكان عام لا يستوجب ذلك الحصول على التعويض؛ فالثور في قوانين حمُورابي لديه حصانة أبدية.

شكّلت قوانين حُمورابي نموذجًا للعدالة الانتقائية مع ورود مواد فيها الكثير من الصرامة أحيانًا، فعندما يتهدم بيت ما نتيجة لعيب في البناء، يُعدم البنّاء، ومن ضرب أحد والديه تُقطع يده، وإذا حكم قاضٍ بحكم وتبين أنَّ حكمه جائرًا يُحكم عليه بتنفيذ ذات الحكم 12 مرة، ويُفصل من القضاء، هذا إلى جانب الكثير من النصوص الأخرى التي كانت تمثل شريعة هذا الملك البابلي في بلاد العراق وما جاورها. وتقبع اليوم قوانين حمُورابي في متحف اللُوفْر في العاصمة الفرنسية باريس. ويقال إنَّ الكثير من دساتير العالم نهجت طريق حمُورابي، رغم تغير الزمن والظروف المُحيطة، وما زال ممن هم بيننا اليوم من يتبع طريقة حمُورابي، ليس في إدارة الشعوب؛ بل حتى في إدارة الأُسر الصغيرة.. فهل قوانين الرجل صالحة لكل وقت وحين؟

ما زال حُمورابي يسن قوانينه ويفرض تطبيقها منفردًا في عالمنا فيُعاقب من يريد ويقض الطرف عن الآخر، ويُجرّم من يشاء ويعفو عمّن يشاء رغم أنَّ ترجمة البروفيسور شايل للغة البابلية في عام 1902، ما زالت محل شك، فقد يكون هو من صاغ القانون ونسبه للملك المُبجل، وهنا يأتي من ينزه حُمورابي بقوله هو لا يعلم ما يدور بعده، أو بالأحرى ترك الخيط والمخيط لمستشاريه وأصدقائه المقربين يفعلون ما يشاؤون ويدمغون كل خطاياهم باسمه، فهل يا ترى كان يعلم حمُورابي بكل هذا؟ ربما غرته شهرته وتفرد اسمه الذي أصبح متداولًا في كل الحقب والدهور؛ كمشرع عظيم، ليته يعود ويلقي نظرة على من يطبق قوانينه الجائرة بعد قرابة 4000 عام.

ومن الجدير ذكره هنا أن حُمورابي بدأ في أول سنوات حُكمه الاهتمام بالإصلاحات الداخلية، والاهتمام بالحالة المعيشية للناس، وكسب رضا المجتمع ومحبتهم، ولم يعرِ اهتمامًا بالغًا بالإصلاحات الإدارية وإصلاح القضاء ومحاربة المحسوبية وتثبيت الأسعار وتقوية الجيش، إلا في مرحلة لاحقة، وهنا رسم الرجل صورة مثالية للملك المستجد على كرسي الحكم البابلي، وعلم أنَّ مفتاح حكمه يقوم على كسب ود المحكومين وليس العكس، فكانت هذه إحدى الصفحات المشرقة في قانون حمُورابي.

سيظل حكام وملوك الأرض ينهلون من صحيفة حمُورابي الشهيرة، وكل يأخذ ما يحلو له منها، وسيشكك البعض في ترجمتها، والبعض الآخر سينفي وجود حُمورابي، لكنه يظل صاحب قوانين شهيرة نقشت بمسمار على حجر بابلي ينتمي لمكان عظيم في الشرق قبل الميلاد... لا أدري لماذا قفز حمُورابي إلى داخل قلمي ليكتب مقالًا عن نفسه في صحيفة تصدر في القرن الواحد والعشرين.. حاولت إنزاله، ولكنه ظل ممسكًا به طوال الليل، فكتب الكثير عن نفسه مما لم يرق لي نقله لكم، ورغم ذلك نقلت بعض بوحه فقط...

لقد نسيت سؤاله عن وصاياه العشر التي لم تدخل في القانون، كما أخذنا الحديث بعيدًا إلى النهر العظيم والأرض المقدسة، وذكرني في آخر حديثه باللبان القادم من بلاد بونت وكيف كان يحرق بوفرة في معابد بابل.

قال لي حمُورابي في الختام.. لا تتعب نفسك بالبحث عن قوانيني البائدة، عليك بصياغة ما تشاء من القوانين العظيمة التي تدعو إلى طاعة الملك، وتجرّم كل فعل مشين، وتنصف المظلوم، وتضمن اقتسام الثروات بشكل عادل، وتنص على عمارة الأرض، ولا تنسى صبغتها بشيء من الدين، وتأكد أنَّ الجميع سيصفق لها عندما تُتلى عليهم في الأسواق خلف قراع الطبل، وسيمجِّدك التجار والمتنفذون والفقراء والمساكين، ولن يكون عليك في النهاية إلا نقش صحيفتك تلك على حجارة صماء، وتودعها في متحف شهير مثل متحف اللوفر في عاصمة النور باريس.