إليكِ

الطليعة الشحرية

 

المرسِل: حالوت أليخاندرو

المرسل إليه: سعيدة البرعمية

المكان: سدني - أستراليا

----------------------

ستنهي مفترق الطرق عند قدميك، تتقاطع الدروب دومًا هناك، وتفضي إليكِ، أتعلمين كيف تشيخ الأرواح؟

لا أظنك تعلمين أنَّ الروح تشيب قبل الجسد، لقد رأيتُها كيف تذوي، وكيف تشيخ، وكيف تنكسف، لا نور يُحييها، ولا بزوغ شفقٍ يُنشيها، ولا انهمال الودق يُطربها، وإنْ كان ريعان الشباب ينضح من الجسد، وسكنت الكهولة الروح، ابيضَّت ناصيتُها، وشاخت، وتشرذمت وثُقِب صفاؤها.

لا تُخطئي فهمي، بالطبع قد يكون هناك بعض الأرواح لم تشِخ بعد، لكنَّهم قِلة، بينما تتكدَّس أكوامٌ من البشر مُتراصِّين فوق بعضهم، أرواحهم مُتيبِّسة وذابلة وهم من كل الأعمار.. أكثرهم أشبه بيرقة شبَّت وأَوْرَقَت، لا تغرُّك الابتسامات المرسومة، ولا الضحكات العالية، أرواحهم مُتهالكة هائمة. الكلُّ يهرول ويسرع الخطى هنا، وكأنهم في بحثٍ مُستمر عن كنوز مفقود. صراع الحياة لا ينتهي، يقتل في داخلك تفاصيل دافئة صغيرة لا تقوى على الدفاع عن نفسها، لكنَّني لا أشعر بالصراع ذاته، ولا أحتاج لأن أبحث عن كنز أضعته.. فهل أنا غريبة الأطوار؟

***

أتعلمين حين أُطلُّ من نافذتي الصغيرة على ما يُسمَّى بـ"العالم الخارجي"، يُفاجئني التهافت المفجِع، والإقبال متسارع الوتيرة، لما يُسمَّى بالحياة.

يقفزُ الجميع بكل سلاسة إلى عجلة الدُّنيا، يسعي لنجاحٍ، ونمو، وشهرة. يبحثون عن قناديل تطفو بالسماء لتتوهَّج، وتنطفئ وسرعان ما تختفي.. ما رأيكِ؟ هل القناديل فهمت اللعبة أم اكتشفت طاقية الإخفاء؟

وهل يهُم أين تعلَّمت القناديل الإخفاء؟ فالبشرُ تركض متلهِّفة تحمل رِماحًا.. الرغبة الجامحة، الكل يُريد قنديلاً، فلا يشعر أحدهم بما وقع منه أو من تلامس كتفه. انزلقت أجزاء من أرواحهم خلفهم، التصقتْ بقاع الدنيا الرَّثة منسية، أو لعلها رغبة ضِمنية مُلحة للنسيان.... أنا لا أعلم.

***

كُنت أقفُ على أرصفة الموانئ عند سفري، أمدُّ البصر إلى سرمدية البحر، أهابه واحترم صمته، لقد تذكَّرت هنا عند أعتاب البحر، وتذكرت حديثك عن البحر وبقعتك المفضلة "مرباط".. فما سرها يا تُرى؟

نظرتُ خلفي إلى مدينة غريبة لا تُشبهني ولا أُشبهها. رفعتُ بصري إلى الأعلى، لقد اقتحمت سماءها قوافلُ غَيْم أدهم ولا ترعف سُحُبها، هي كذلك طوال الأسبوع مُكفهرَّة وقاتمة، والقوافل تتكدَّس وتحجب الأفق والأصيل معاً. لعلها السبب في تفاقم أعداد الأرواح التي شاخت هنا؟ أم نحن البشر من يُبدِّل اعتناقنا فتشيخ أرواحنا؟

***

مباني هذه المدينة شامخة وكثيرة ومتقاربة، كأنها صناديق فارغة أُعيد حشر المئات من القطعان البشرية فيها، ما إنْ تدق الساعة التاسعة صباحاً حتى يَشرُع الجميع باللُّهاث، ويمتد الزحام عند أعمدة إشارة المرور. أَراهم يقطعون الشوارع، الكل يركض... ويركض، ولا أعلم متي يتنفَّسون؟

والمدينة تمتدُّ، وتتكدَّس، وتحشُر الجميع، والكلُّ يلهث ولا يروي عَطشهم غير كؤوس الحياة الخمرية، وأنا أقف ساكنة لا أتحرك، لا ألتفت، لا أرمش.. فقط أحدِّق بهم وأتساءل: متى أسمع فرقعة أصبعٍ وأستيقظ.

***

إليكِ يا عزيزتي،،، لا تبتئسي من تهافُت أفكاري، هي فقط تُزَاحِم الواقع لتبحَث عن مُتنفس، لا يضيق بها، لا يحكمها، ولا يُحاكمها، ولا يبحث عن جدلية أو منطقية، لا أبحث عن رأي، فأن لا يكون لي رأيٌ.. فهذا بحد ذاته رأي.

والسلام...،

 

* عمل مشترك لإحياء أدب الرسائل