مدرين المكتومية
يقول البعض إنَّ الكُتّاب حول العالم يتوقفون عن الكتابة في إجازاتهم، لكنني أعتقد أنَّ ثمَّة شيء ما يدفع الكثير من الكتاب لأن يكتبوا دون توقف؛ فالكتابة ليست ككل الممارسات الحياتية الأخرى؛ لأنها فعل رقي وسُّمو بالنفس.. فعل يجتاحك، يجبرك على أن تقوم به دون خيار الترك أو التأخر، الكتابة هي العمل الوحيد القادر على أن يصنع إنسانيتنا، يحول الحزن إلى سعادة، والظلام إلى ألوان قوس قزح، ومن اللحظات الصعبة لحظات لا يمكن تكرارها.
ليس بمقدور الكاتب الحقيقي أن يتوقف عن الكتابة لأنه فقط في إجازة؛ بل الكاتب الحقيقي من يبحث عن نفسه في تلك المساحة، من يكتشف دواخله، ومن يحرض مشاعره لكي تُعبر عن كل ما يشعر به أثناء انعزاله، وابتعاده عن مهامه الوظيفية.
الكاتب في لحظة ما يشعر وكأنَّ تلك المساحة المخصصة له كل أسبوع، ما هي إلا فرصة لتُعيد تشكيل حياته، يفكر في الوقت وكأنه آلة زمن ضاعت ولم يعثر عليها، يفكر في البشر، وكأنهم رحلوا ذات ليلة ليستيقظ ويجد نفسه بعيدًا عن الوجوه التي ألفها، وعن مخدعه الذي اعتاده، وعن الممرات التي سلكها، وعن القهوة التي يحتسيها.. إنِّه يفكر في كل شيء من حوله، وكأنه حدث لا يُمكن تجاهله، وهنا لا أتحدث عن كل الكتاب ولكنني على الأقل أعني بذلك تلك الفئة التي ترى الحياة من الجانب الآخر.
عندما يختار الكاتب قضاء إجازته بعيدًا عن أي شيء اعتاد التعثر به أو التقاه أو العيش معه، فإنِّه يختار البحث عن وجه آخر للحياة، نصف يختلف عن النصف الذي اعتاده؛ أي أقرب لأن يمارس التناقض الذي لطالما انتقده. فتجده لا يحتاج للوجع حتى يكتب بصدق؛ بل تكفي السعادة والحرية والغربة لكي تحرك مشاعره وتهيجها، ولكي يكتب ويُعبر عن الشخص الآخر الذي يسكنه، شخص مختلف تمامًا عن ذلك الذي كان في نفسه قبل الاستراحة.
من يقول إنَّ الكاتب يستطيع العيش دون أن يكتب، أعتقد أنه لم يجرب أن يكون كذلك يومًا ما، لم يجرب أن يجد في الكتابة المسعف الوحيد في مختلف اللحظات والمشاعر.. لم يجرب أن يراها كالمواقف والأحداث التي تعيد تشكيل حياتنا وفق ما نمر به من تجارب، ففي ابتعادنا عن كل شيء، نستطيع أن نصنع من الكتابة فرصة لإعادة النظر في كل الحياة من حولنا.. في أفكارنا ورؤانا.. تطلعاتنا ونظرتنا للكون، نصبح أكثر عمقًا، أكثر تقبلًا، وأكثر تجاوزًا، نصبح أكثر قبولًا لأنفسنا.. في الكتابة نحلم لنعيش، لا نعيش لنحلم، وفي الكتابة أيضًا يمكننا أن نكون كما نريد نحن. لذلك لست ضد أن يختار الكاتب مساحته، وأنه يجب أن يعيش الحياة بحلوها ومرها، فلا مانع من أن يختار المكان الذي يلائمه ليعيش بحرية، بعيدًا عن شعوره بالمسؤولية تجاه كل شيء من حوله.
إن السياحة فرصة لتغيير المزاج ونفض ضغوط العمل من على أكتافنا، خاصة وأن العمل الصحفي يختلف عن أي عمل آخر؛ لأنه قائم على مسؤوليات وواجبات تجاه الآخرين، وهم جمهور القراء، لذلك أكتب هذا المقال لأني أعتقد أن الكاتب لا يحصل على إجازة أو يغيب عن قرائه؛ بل حتى إن لم يجد نفسه قادرًا على تقديم إضافة حقيقية لكل قارئ، فيعمل في المقابل لإشراكهم الأمل بين سطور كل مقال، ومنحهم المعرفة عبر ما ينشره، فيتعمقون في فهم هذه الحياة.
الكثير منِّا يختار السفر وسيلة للهرب، أو فرصة للتفكير العميق، لكني أرى في السفر، سانحة للتخلص من هموم الدنيا، والاسترخاء، والسفر هنا لا يجب أن يكون خارج حدود الوطن، فهناك من المواقع المحلية ما هي أجمل وأفضل من الخارج، فيكفي أن تجلس على ضفاف وادٍ يفيض بالماء، خاصة بعد الحالة المناخية التي عايشناها مؤخرًا، أو تمشي حافي القدمين على أحد شواطئنا الخلابة الساحرة، فتغوص أصابعك في الرمال..
وأخيرًا.. إنَّ اللحظة التي يعيشها كل فرد- وأنا منهم- بعيدًا عن كل الذين اعتادوا أن يكونوا مُحيطين به، ما هي سوى فرصة لإعادة التموضع الفكري، والنفسي، وإعادة النظر في عدد من القرارات التي تنتظر مني اتخاذ الخطوة الحاسمة!