وداد الإسطنبولي
ثقافة شعبية أخرى يحملها البساط الأبيض، تجسد في طياتها قضية جميلة وصعبة أيضًا بين التأثير والتحول، قضية بروز دور المرأة الكبير في التراث وفنه، فأصبحت ذخيرة ومكمن قوة للمرأة ومجتمعها فذاع صيتها من زمن طويل.
كنت أسمع أصوات رهفت لها أذني منذ الصغر، وأهيم مع ترانيم أغانيهم وألحانهم، مثل العندليب الأسمر، وفايزة أحمد، وفريد الأطرش، وغيرهم من العمالقة الذين توهت أصواتهم عقولنا، ونالوا محبة الشعب وقلوبهم وأفتخر أن عمان الحبيبة كانت تحمل قيثارة شرق، ككوكب الشرق أم كلثوم، وأصبحت من الطوالع بين ثناياها.
صوت شجي، ومميز قوي، حباه الله لها بالفطرة، فغاص مرتطماً ببحر البيئة، وغرد على أغصان المكان، فجعلني أعيش وأنبهر مرة أخرى بالفن الشعبي أسمع نغمة الفرح تتخلل حديثه، وحنين بصوته لتلك الذكريات والشخوص التي رحلت.
مما يدفعني لغزارة السؤال والتعمق في أصالة الشخصية الكبيرة والعظيمة، وأجد الجواب متدفقاً يحاكي غزارة استفهاماتي.
"خير بنت فرج بن شمسة" من مواليد منتصف الثلاثينات، من ولاية مرباط اقترنت بالموروث الشعبي وتشربته أباً عن جد من أسرة فنية متأصلة بالطرب منذ زمن طويل، ويبدو أن جينات الأجداد كانت تسبح في دم "خير بنت شمسة" وكما يقولون "العرق دساس"، تشربت هذا الفن فتحول الإبداع إلى فن أصيل، فالتصقت هذه الأهازيج بحياة المواطن تعكس أفعاله وأقواله وهمومه وأحلامه، وتفاصيل حياته فأبحرت "خير قيثارة الشرق المرباطي" بصوتها فشملت هذه التفاصيل، واقترن هذا اللقب بها لشعبيتها الكبيرة في محبة الناس لها رحمها الله.
وأتساءل! لماذا مرباط؟
فأنظر للبحر وأجد الموقع الجغرافي، وتاريخ المدينة له علاقة بالتاريخ والتجارة البحرية، وتبادل العلاقات كان بين الأخذ والعطاء، فاتخذ المكان عنصرا لتأصل الموروث الشعبي ليرتديه أبناؤه.
والفنون الشعبية التي تغنت بها قيثارة الشرق المتفرع من "القصبة والشرح وصوت الهوج إلى السيلام وينتهي بالطبل العربي"، وهذه فنون تختص بها النساء تؤديها بالأعراس إلا فن الشرح الذي يقترن بالرجال.
وقد اقترنت "خير بنت شمسة" بأغنية اشتهرت بها ومازالت الأفواه تتحرك بكلماتها إلى الآن، وترمز هذه الأغنية إلى "فن الوقيع" الذي يتجزأ من "فن الربوبة" وفن الوقيع يختص به بيت بن جوهر وبيت بن شمسه وهم أحلاف، أي لا يتعدى أحد على فن الآخر في الغناء الا بإذن، فهناك اتفاقيات ومعاهدات مرتبطة بهم، وقوانين والتزام.
حيث تقول:
" ولد عمي ما بغيته * اقينوتلي
وجار الله من كتابه * اقينوتلي
ولد عمي في الجزيرة * اقينوتلي
وعليه البحر ديره * اقينوتلي
في حين صوتها الرنان في "فن السيلام" يبرز ضخامة صوتها، وشجونه. إذ كما قلت آنفاً إن هذا الفن يبدأ بالقصبة، أي " الناي" إلى أن يصل إلى الطبل العربي. وينفرد فن السيلام بالنساء يؤدينه مثنى أو رباعي. ويكون الأداء متناسقا وسريعا مع الانسجام.
والأهمية في هذا الفن ليس اللبس والزينة بقدر ما هو الأداء المتكامل على أكمل وجه برقص جميل وانسجام تام.
"خير بنت شمسة" رمز مرباطي لن ينتسى من الوجود ولا من القلوب، صوت له وقع خاص للسامع. فرحم الله من أسهم في تخليد الفنون الشعبية الأصيلة.
ولا ننسى الإعلام العماني أيضًا بشقيه الإذاعة والتلفزيون، الذي أبرز هذه الفنون فتعرفنا عليها صوتا وصورة.
والشكر والتحية للحفيدة فاطمة بنت ربيع والأخ والباحث عبد الرب جوهر.
اقينوتلي: اسم امرأة.