علي الرئيسي **
** باحث في الاقتصاد وقضايا التنمية
"إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإنَّ الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم في إنتاج وتسويق الصورة يتحكم في المجتمع كله". ريجيس دوبريه
بعد حرب الخليج الأولى، فاجأ الفيلسوف الفرنسي ما بعد الحداثي وعالم الاجتماع جان بودريار، العالمَ بالتصريح بأن حرب الخليج لم تقع، فمن هو جان بودريار؟!
لا شك أنَّ بودريار يندرج ضمن مصاف أكثر مفكري ما بعد الحداثة "Post Modernity" تأثيرًا في القرن العشرين بنظرياته السوسيولوجية والدلالية، في منحى نقدي واضح، لكن تبقى أطروحته "نظام الأشياء" (1968)، هي النقد الأكثر حدة للخطاب الاستهلاكي لما بعد الحرب العالمية الثانية. فانطلاقاً من حماس مايو 1968 ومقدماتها (المظاهرات الطلابية التي أطاحت بالجنرال شارل ديجول في فرنسا)، وعلى ضوء روح فكرية مطعمة بالوجودية السارترية (نسبة إلى الفيلسوف جان بول سارتر) والهيدغرية (نسبة إلى الفيلسوف مارتن هيدغر)، ومنها الماركسية السائدة حينها والماوية منها خصوصاً، فقد عالج بودريار- مداورة إلى حد ما- نمط الاستهلاك في باكورة أعماله الصادرة عن أطروحة الدكتوراه. ويشكل كتاب "نظام الأشياء" معلمًا في إطلالة بودريار الفكرية لما بعد الحداثة. ويتميز الكتاب بأسلوب غزير، بتحليل ماركسي وأسطوري، على شيء من التحليل النفسي، ما يعكس تأثير جاك لاكان (المحلل النفسي الفرنسي الشهير) الرائج حينها.
بعدها أصدر "المجتمع الاستهلاكي" عام 1970، ومن ثم أصدر "نقد الاقتصاد السياسي للرمز". واعتبر كارل ماركس أن السلعة لها قيمة للاستعمال، وقيمة أخرى سماها القيمة التبادلية. أما بودريار، فقد أضاف أن السلعة لها قيمة أخرى إضافية هي القيمة الرمزية. واعتبرت كتاباته الأولى أنها جمعت بين السيميائية (علم الإشارات) ونقد الاقتصاد السياسي. وهذه الدراسات حلّلت الإشارات والرموز واللغة، وتفاصيل الحياة اليومية، وبالذات كيفية إبرازها وتداولها في الإعلام أو المجال العام. لذلك اعتَبَرَ بودريار أن القيمة الرمزية للسلعة أصبحت أكثر أهمية من القيم الأخرى؛ لذلك السيارة الرياضية أو العلامات التجارية في الملبس تفوق قيمتها للاستعمال أو التبادلية؛ أي أن الفرد أصبح يُعرف بنوعية السيارة التي يسوقها أو ماركة حذائه وليس بعمله أو مهنته. إلا أنَّ بودريار في كتاباته المتأخرة افترق عن الماركسية التقليدية، واعتبر أن الناس تعيش في عالم المحاكاة (Simulation)، وهو أن إعادة الإنتاج الاجتماعي تتمحور حول معالجة المعلومات والاتصال، وصناعة المعرفة، عوضًا عن فائض القيمة والاقتصاد السياسي، غير أنَّ الاغتراب أصبح معممًا.
نعود إلى موت الواقع، وماذا كان يقصد بودريار عندما قال إن حرب الخليج لم تقع، وتناول أيضًا موضوع انهيار برج التجارة العالمي في نيويورك. يذهب بودريار إلى أنَّ الصورة الإعلامية انتقلت من عصر المشهد/ الحقيقة إلى عصر المحاكاة (عصر الفضاء الرقمي)، وأنه أثناء هذا التحوُّل تم قلب الواقع والحقيقة وإعلان موتهما. وتم تعويضهما بكل أشكال الزيف والمخادعة والتشويه.. فحرب الخليج مثلاً تم متابعتها عبر التلفاز؛ وكأنها مباراة كرة قدم، وذلك بعد أن جرى مُعالجة الصورة وتحريرها، فبدت كفيلم سينمائي أو لعبة من الألعاب الإلكترونية، فهي حرب تبدو نظيفة لا تعكس الدمار والخراب الذي حاق بالعراق وشعبه.
الواقع الذي ينقله الإعلام، ليس هو الواقع الحقيقي المباشر؛ بل هو واقع آخر جرت مُعالجته وتحريره، بحيث يكون أكثر واقعية من الواقع الحقيقي، وهو يعبر عنه بودريار بمصطلح الواقع المفرط (Hyperrealiy)، أو الواقع المُصطنع، ويصف بودريار هذا "الاصطناع" بأنَّه عملية توليد نماذج لا تحتفظ بأصل، ولا تحيل إلى واقع حقيقي، وأنها مخلوقة من خلايا مصغرة قادرة على افتراض الواقع لمرات غير متناهية، ولا يخضع لمقاييس أو إلى أية مرجعيات.
بودريارد يؤكد أنه لم يعد هناك وجود لحقيقة أو مرجع؛ بل فقط مكان لوجود الغموض الذي بدأ يغمر مبدأ الحقيقة. إنه إيذان بمرحلة جديدة تلقي بظلالها على أفقنا الوجودي؛ حيث انتقل العالم من بنية تقليدية، كان يُهيمن عليها منطق الواقع إلى بنية أخرى تلف وجودنا المعاصر، وهي بنية افتراضية. والافتراضي حسب تصور جان بودريارد، هو سلب للواقعي، وإفراغ جذري لمحتوياته؛ لأن الواقع عندما ينتقل كمادة خام إلى مجال افتراضي، إنما يُوضع تحت رحمة عمليات الترميم والتجميل والإخراج.
الثقافة الشعبية (Pop culture) قدمت امتنانها لما كتبه بودريار في فيلم "المصفوفة" (The Matrix) في العام 1999، وهو أول أجزاء من ثلاثية من الأعمال الأكثر نجاحًا وتأثيرًا في تاريخ السينما. تحكي السلسة ملحمة تخوضها قلة من المناضلين لتحرير الإنسان من سيطرة الذكاء الاصطناعي الذي انقلب على البشر، وهم في سبات داخل مزارع الطاقة؛ حيث تحيا أدمغتهم معًا في عالم افتراضي زائف يدعى "المصفوفة"، لكنه يُقدم مُحاكاة واقعية طبق الأصل. ويلعب الممثل الكندي الشهير كيانو ريفز دور البطولة، فهو "نيو" الذي يمارس القرصنة الإلكترونية سرًا، وفي مشهد مبكر، قبل اكتشاف الحقيقة والانضمام إلى المقاومة، نراه يخفي ملفاته الرقمية غير القانونية داخل كتاب عنوانه "التشبيه والمحاكاة"؛ وهو عنوان لكتاب لجان بودريار! لكن بودريار قال إن فيلم "المصفوفة" أساء فهم ما كان يقصده من موت الواقع.
أطروحة بودريار عن "موت الواقع"، ليست كتابًا عاديًا يمجِّد ثقافة العدمية والتيئيس، كما يتبادر إلى الذهن من خلال عنوانه، بل على النقيض، هو بمثابة رؤية نقدية جريئة لواقع بشري متحكم فيه من طرف نظام آلة القوة العالمية الاستهلاكية، فهو واقع مهيمن وطاغٍ، إنِّه صرخة لاستعادة الإنسان لكينونته وحريته.