الحكيم العماني.. الذي مزّق الحجب بهدوئه

خميس العدوي

قبل أكثر من عقد من الزمن.. حينها كانت فكرة المراجعة الفكرية تلهب دماغي، وتعتلج بين جوانحي، وتضغط على القلب أكثر من تشظيها في العقل، وكأن النفس ترتقب انفجاراً غير معلوم الموقع ولا المتجه، كان ذلك قبل انفجار الربيع العربي، حينها لم يكن في الحسبان أنني أعيش حالة كلية تلخّص الاجتماع العربي، وليس فقط مُجرد معاناة معرفية تجول باحثة عن الذات بصفة فردية، وقد انفجر الربيع شعاعاً مُلتهباً في أفلاك المُعاناة العربية؛ من سحق للبشر إلى تدمير للأوطان، ومن ركوب على دابة السياسة إلى استغلال لقدسية الدين. في حين.. اتجهت نفسي إلى البحث عن «الحقيقة»، بدايةً.. من خلال ثورة الفكرة، وانتهاءً.. بسكون النفس في مستقر حكمة الصلة بالله وقوت الأخلاق.

تلقيتُ اتصالاً من الصديق صفي النفس سعيد بن سلطان الهاشمي في رمضان ذلك العام، يدعوني فيه للإفطار، فلبيت الدعوة بدون تردد، التقينا في شقته الصغيرة التي يسكنها بالإيجار في الخوير، كان المدعوون عدد أصابع اليد الواحدة، ولذلك.. كان اللقاء حميمياً يغزو مستجمع القلب أكثر مما يفتح مناطق العقل، فالكلمة.. تخرج بدفقة محملة بفيض المودة والمحبة للإنسان وللدين وللمجتمع وللوطن. حمل اللقاء خيطاً ربطني برؤية جديدة للحياة؛ لا تنطلق كالعادة من المعرفة، بل تستلهم من العرفان، العرفان.. الذي سيتطور لدي باتجاه متحرر من قبضة التصوف؛ الذي أصبح سجناً هو الآخر للنفس، بعدما كان يراد منه أن يحررها. خيط.. رغم دقته؛ إلا أنه قويٌ لدرجة لم تنفصم عروته حتى طواه الرحيل عن عالمنا، كان ذلك هو صادق بن جواد سليمان، وكان ذلك هو اللقاء الأول به.

من بعد.. عرفت أنَّ الكثير ممن تابعه، وتكلم معه، وحاوره؛ كان يبحث في المعرفة، وفي تطور الفكرة، وفي تأثيرهما على المجتمع، وربما يبحث لديه عن مخرج من الركود السياسي، أو الشك الديني، أو الخلل الاجتماعي؛ أو منها جميعها. لكن كل ذلك.. كان بنظري؛ هو بحث عن الخارج في ذات الآخر، وكنت أطمح حينها للتبصر في ذاتي.

لذلك.. كانت نظرتي إليه، أو ما تأثرت به منه، هو «البُعد الصوفي» للفكرة؛ التي تمتح أصولها من الأخلاق، لا من المعلومة، كان كل لقاءاتي معه تفتش عن موقع الروح الكامن في الإنسان، فكنت أزوره مع بعض الأصدقاء في بيته في منطقة الموج، قبل أن ينتقل منه، فشكّل القرب المكاني قرباً نفسياً، حيث كنت حينها أسكن في منطقة الغبرة، وكان اللقاء يطول بالساعات، بحيث إنني عندما افتح معه قضية في الحوار، يستمر في الحديث عنها، وكأن لا نهاية لها في ذهنه، لم يكن يستحضر الشواهد المعرفية؛ إلا بالقدر الذي يسعفه لتوضيح ما يحتاج لبيانه، وإنما كان يشرّح الفكرة ليقف على لبّها الإنساني؛ لقد آمن بالإنسان قبل أن يؤمن بعلاقات البشر، وآمن بالأخلاق قبل أن يؤمن بنظرياتها، وآمن بجوهر الدين قبل أن يؤمن بنصوصه.

كنتُ في حديثي معه بدايةً أبحث عن سواحل تأويل الكلمة؛ فأجدني معه في لب المعنى المتخفف من حمولات التأويل، رغم أنه يعبر بك إلى المنطقة الجوانية للنفس باستعراض بعض أشرعة المعرفة ومجاديف التأويل، ولكنه يتركك في العمق مجرداً منها؛ تصارع أمواج تدفق المعاني الذاتية للفكرة.

وقبيل بلوغ سدرة المنتهى.. ظننت أن ذلك السمت العرفاني قد رضخ بنفس أستاذنا الحكيم صادق سليمان إلى السكون، وأن الحياة نزلت عليه بكلكلها فاستقرت رواكده، بيد أن في زيارته لي في بيتي ببَهلا أيام عيد الفطر الماضي؛ وجدته لا يزال يعبر بمركبته الفضاء الوجودي للإنسان، وأن الشحنة العرفانية التي استصحبها معه في رحلته الطويلة التي أوهنت جسده، لم تمس روحه بأذى، فلا زال روحه يعرج في سماء الحقيقة؛ الحقيقة.. التي قد لا تقنع باليقين، لكن لا يزعزعها الشك.

هذه المرة.. هو من ابتدرني بالسؤال قائلاً: هل لا زلت على أصلك في مفهوم التصوف؟ فأخبرته بمفهومي له؛ بما ملخّصه: أن هناك اتصالاً مباشراً بين الإنسان وخالقه عبر الروح الذي نفخه الله فيه، وهو يتجاوز ظواهر النصوص الدينية، ولا يتعلق بالفلسفات التنظيرية. فقال: بهكذا أنت تمزّق الحجب التي تحول بينك وبين الحقيقة، ولا بُد من الوصول إليها. لم يكن يعلم -وربما يعلم- أنه هو مَن أعطاني أحد مشارط هذا التمزيق، المشرط الأكثر هدوءاً وحكمة، لا يجرح النفس، وإنما يوسّع مجاري الروح.

وفي لقائنا الأخير به لوداعه قبل سفره إلى الهند للعلاج، والذي لم يعد فيه جسده إلينا، أبقى روحه بين جوانحنا، الروح.. الذي يصل إلى الحقيقة عبر فسيح درب الأخلاق، فلا إنسانية معترف بها لدى صادق سليمان ما لم تخترق حجب المعرفة الكثيفة، ولن تصل هذه الإنسانية إلى صوابها في التعامل الاجتماعي ما لم تهذّب ذاتها بالأخلاق.

فلتسكن روحك العارفة بالحقيقة، العازفة عن الطريقة، في مستقر الرحمة الإلهية؛ أيها الحكيم العماني.

 

تعليق عبر الفيس بوك