د. خالد بن حمد الغيلاني
@khaledalgailani
علاقة الإنسان بالمطر علاقة حميمية وطيدة منذ الأزل، فهو مصدر الإلهام والرزق والحياة والسعادة، وقد ارتبط العماني كغيره من البشر على وجه هذه البسيطة بالمطر فرحًا وسعادة وسرورا، فما أن تلوح غيمة في السماء حتى تشرئب الأعناق نحوها راجية من المولى جلَّ وعلا هطولها وخيرها، ويتباشر الناس بها مهنئين بعضهم، رافعين أكف الضراعة والدعاء لله تبارك وتعالى فلعلها ساعة إجابة ورحمة وقبول للدعاء.
إلا أهل (صباخ في صور العفية) فلهم حال مختلف مع المطر، وفرحة غير مكتملة يعتريها الخوف، ويشوبها القلق، وتنتابهم أحاسيس وذكريات كلما مرت عليهم تذكروا لحظات الخوف والفزع، وشعور الهلع والجزع، خوفاً على شيخ كبير وعجوز مسنّة، وطفل لا زال في مهده، ودابة تربطها بأهل المنزل علاقات الوفاء والمحبة، وصيحات الاستغاثة من على أسطح منازلهم، وصوت البنادق لعل مغيثاً يستمع إليهم، أو مجيباً يلبي صرختهم، ثم سرعان ما ينقشع الموقف عن دمار وألم وحسرة خلفها مطر شديد، وواد هادر، وشعاب لا تضل طريقها، حتى أصبحت أي غيمة عابرة تمثل ذكرى أليمة وإحساسا مخيفا لعلها عابرة لعلها غير مطيرة لعلها رشة مطر تروي الظمأ وتبهج النفس دون ضرر ولا خوف ولا أسى.
ومع تباشير العشر من ذي الحجة واستعدادات العيد الكبير، لاحت في الأفق سحابات خير وبركة، فقال الناس: هذه خيرات الأضحى قد تجلّت، ونفحات السعادة قد أقبلت، فاللهم سقيا رحمة وبركة، ومع وجود سد للحماية لم يتوقع الناس ضررًا وإشكالا، ولكنها الأمطار التي انهمرت شديدة في وقت قصير، وفي زمن غير مألوف فانحدرت الأودية من كل حدب وصوب، وسالت الشعاب على غير عادتها، وهو الوادي الذي لا يخطئ مساره ولا يحيد عن طريقه جاء يحث الخطى ويستعجل المسير وكأنه يقول خلو بيني وبين مساري فكان منخفض الحج وكانت (الصباخ) وكان الألم والأثر والفزع.
ولعل الأهل هناك في (صباخ) يصرخون ويبعثون بعدد من الرسائل؛ لمن يهمه الأمر ويعنيه ما حدث؛ وتأتي رسائلهم متتابعة:
الأولى: حتى متى سنبقى هكذا، فزع مع كل سحابة، وخوف مع كل قطرة مطر، ولجوء إلى بيوت الأهل والأقارب، ومراكز الإيواء، حتى متى والبيوت تتلف ومحتوياتها تذهب سدى، حتى متى؟ أما آن الأوان لحل جذري لا مجال فيه لتأويل أو شك أو توقع، حلا يحفظ للناس حياتهم وأموالهم وممتلكاتهم، ويحفظ المال العام من كثرة الصرف الذي لا أثر له ولا عائد، فهل من حل ثابت دائم، أو أنها فزعة وقتية سرعان ما يتناساها الجميع وتبقى في قلوب أهل (صباخ) الطيبين لوعة وحسرة وأسى، ولأني أعشق التفاؤل وأثق في الجميع؛ أقول: بإذن الله تعالى الحل قادم.
الثانية: أي شكر يكفي وأي ثناء يفي حق الأكرمين بني الأكرمين من أبناء عُمان الذين هبوا هبة الرجل الواحد والألم الواحد والبذل الواحد والعطاء الواحد، فكان الوصول سريعًا والتخفيف من المعاناة واضحا، وشمّر الرجال والنساء، والصغير والكبير. فرغم المُعاناة سعادة غامرة بلحمة وطنية عمانية غير مستغربة، وغير جديدة، فاختلطت دموع الخوف بدموع السعادة، وتلجلجت كلمات الثناء بكلمات العتب، وكثير العتب من المحبة.
الثالثة: شكرًا لمؤسسات الدولة المختلفة مدنية وعسكرية وأمنية وشركات ومؤسسات المجتمع المدني ولكل مسؤول؛ والذين قاموا بواجبهم، وسعوا وفق المتاح أمامهم للتخفيف وحل الإشكالات التي تتكرر وتظهر مع كل مطر، شكرا لمن قطع إجازته ووصل ليله بنهاره، شكرا لمن وقف في الميدان يشد أزر العاملين ويضع يده في الطين يخضّبها بحناء الواجب، وندهة الإخلاص.
الرابعة: شكر خاص ومستحق للجنة العليا المكلفة بمتابعة جائحة كوفيد 19 والتي رغم خطورة الوضع وشدة ارتفاع وتيرة الإصابات وقرارها المسبّب والمقدّر بالحظر التام؛ إلا أنها قدّرت الوضع وتعاملت مع الواقع وشخصت الظروف، وكانت عند مستوى الحدث وفي الموعد؛ فلهم جزيل الشكر وعاطر الثناء.
الخامسة: أصبح الأمر الواقعي مع سقوط المطر وما يصاحبه من قطع للماء والكهرباء، وخلل في تصريف المياه وقنوات ذلك؛ أصبحت مشكلة متكررة تشمل الجميع لابد معها من حلول لا تقبل الأنصاف، حلول تجتث المشكلة من أساسها وتمنع تكرارها وبشكل نهائي، والمجتمع بكل أطيافه يثق في قدرات المسؤولين وممثليه في المجالس واللجان ذات الصلة لإيجاد حلول ناجعة مع الأخذ بعين الاعتبار دوامها، والاستفادة من الخبرات المجتمعية وأهل المعرفة كل في مجال اختصاصه. ولا يصح منطقا وواقعا تكرار إشكاليات ترتبط بمعيشة الناس اليومية ونحن نعيش نهضة عمانية متجددة، ونمضي نحو رؤية وطنية واعدة.
السادسة: إدارة الأزمات فن وعلم مستقل بذاته، وفي ظل الظروف التي تطرأ علينا بين الفينة والأخرى، ولاسيما الظروف المرتبطة بالمناخ وأحوال الطقس؛ لذلك من المهم جداً بل ومن الضروري وجود لجان لإدارة الأزمات فيها من الكفاءات ما يمكّنها من القيام بعملها، ولديها القدرة على توقع المشكلة قبل حدوثها وكيفية حلها عبر عدد من الخطط والتصورات والسيناريوهات التي تحدد من خلال قراءات وتوقعات وكيفية التعامل مع كل توقع منها. بالشكل الذي يخفف من آثار الظروف الحادثة بل ويمنع تأثيرها المباشر على المجتمع بكل أطيافه ومشاربه. هذه الخطط التي ينبغي أن تكون جاهزة ومعدة سلفًا وأعضاؤها ثابتون قدر الإمكان.
ستعود (صباخ) تلك المنطقة الدافئة بقدر طيبة أهلها، وسماحة نفوسهم، بقدر ذكريات الكثير من أبناء صور وهي ملتقى ليالي صيفهم وسمرهم مع صوت تساقط حبات الرطب في ليالي صيف صور، والصوري يزمجر تارة ويفتر تارة، والنخيل تراقص طربًا وسعادة، ستعود (صباخ) والمظبي والتقلية تنتقل بين بيوتها وأزقتها، وستغدو (صباخ) عروسا بهية في ليلة قمرية بهمة أبناء عمان، ويزول عنها العناء، وإن اقتضى الحال نقل أهلها، فحيثما حلوا فهم نقاء سريرة، وصفاء قلوب، وصادق محبة وتعاون.